من خلال هذا المقال سنحاول أن نؤسس لنقاش عميق نعيد من خلاله النظر في الضوابط التي تقوم عليها المنظومة التربوية في مجتمعاتنا الإسلامية في سياق البحث عن تحقيق البناء الحضاري الذي يهدف إلى تربية الأجيال، على المستوى الأخلاقي، والعلمي والعملي، حتى يكون لها قدم السبق والتفوق في مختلف الميادين، وعلى المستوى العالمي، وكل ذلك في ضوء الإسلام ومبادئه. وهذه الضوابط تتعدد بين الضابط التعبدي، والضابط التشريعي، والضابط العلمي، وكذا الضابط الأخلاقي والنفسي… إلا أن معدودية هذه السطور، فرضت علينا مناقشة ضابط واحد من بينها، وهو الضابط التعبدي، خاصة أنه المرتكز والأساس الذي عليه تقوم باقي الضوابط. ورغم ما يكتسيه من أهمية نجده -مع الأسف- الأقل حضورا ومراعاة في مناهجنا التربوية.
فما المقصود بالضابط التعبدي؟ وما هي أهدافه؟ وأين تتجلى أهميته وآثاره في بناء التربية الحضارية الإسلامية التي ننشدها؟ وأي حضور له في واقع مناهجنا التربوية؟
1 – مفهوم الضابط التعبدي:
إن المراد بالضابط هنا ذلك النسق من القواعد والضوابط الناظمة لنشاط الإنسان اعتقادا وفكرا وعملا وسلوكا، وكونه تعبدي أي أنه قائم وفق منهج الله، حيث يقوم الإنسان بمهامه المختلفة لعمارة الكون مستحضرا في كل ذلك الإخلاص لله وحده، قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (الذاريات: 56). ومفهوم العبادة في الإسلام: “مفهوم شامل جامع لا يقتصر على أداء الفرائض التعبدية فحسب، بل يشمل أيضا نشاط الإنسان كله من فكر واعتقاد وتصور وعمل ما دام الإنسان يبتغي وجه الله تعالى بهذا النشاط، ويلتزم فيه شريعته ومنهجه”.
2 – الأهداف التعبدية في التربية الإسلامية:
لقد تصدت الشريعة الإسلامية في استحضارها للضابط التعبدي في مناهجها التربوية تحقيق مجموعة من الأهداف، منها:
- بناء جيل يجعل الإخلاص لله غايته، ويحرص على احتساب النية في أداء أعماله.
- بناء أفراد يستحضرون وصف العبودية لله، والمراقبة الربانية لهم في كل حال وحين.
- إيجاد الفرد المسلم السليم العقيدة المؤمن بربه، الممارس لعبادته على الوجه المطلوب والصحيح.
- تربية المواطن الصالح، المنتج المتفاعل مع بيئته، والمسؤول والموظف الذي يعي أن إتقان العمل عبادة.
- بناء أجيال محصنة داخليا تمتلك المناعة العقدية والإيمانية التي تخول لها القدرة على مواجهة الغزو الحضاري، وأخطار العولمة، ومختلف الأفكار الهدامة الدخيلة علينا.
- بناء الفرد القادر على أداء مهام التصفية والتحلية للحضارة والثقافة الغربية، لانتقاء ما ينفعنا ويوافق مبادئنا، ويطرح غيره.
- بناء الجيل المسلم القادر على إحياء ونشر الرسالة والنموذج الحضاري الإسلامي.
- بناء أجيال مسلمة قادرة على صناعة حضارة بهوية إسلامية ومتفوقة على كل المستويات والأصعدة.
ويبقى الهدف الأسمى للتربية الإسلامية كما أشار إلى ذلك إسحاق فرحان، هو: “إيجاد الفرد المؤمن الذي يخشى الله ويتقه ويحسن عبادته؛ ليفوز في الآخرة ويسعد في الدنيا”.
3 – أهمية الضابط التعبدي في البناء الحضاري الإسلامي المنشود:
إن أهمية هذا الضابط تكمن في سمو أهدافه وعظيم أثره في البناء الحضاري للأمة الإسلامية، لهذا لا ينبغي للإنسان المسلم أن ينجر وراء زخرف الحاضرة وزينتها، ويجعل تحصيل الدنيا وتكميلها أكبر همه. فالضابط التعبدي يقتضي أن يستشعر كل فرد العبودية والإخلاص وهو يمارس وظيفته أو مهنته، ولا تفارقه في أي لحظة من لحظات حياته، قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام: 162). لهذا فإذا تشربت الأجيال روح العبادة هذه، فلن تستعبدهم الحضارة ولن يكونوا عبيدا لها منساقين ورائها منبهرين بزيف بريقها، بل هم من سيسخرونها بغية تحقيق مفهوم العبادة الصحيح. ويكون الناتج شباب مسلم طموح مخلص همه الإسهام في تقدم أمته، فإذا تقلد منصب المعلم والمربي كان هدفه الإسهام في التقدم الحضاري مخلصا النية لله في ذلك، متقنا لعمله، وباذلا قصارى جهده، موقنا أن بذلك ترتفع درجته عند ربه، فيسارع في الخير مواصلا البناء، ومساهما في بناء حضارة متقدمة خيرة نافعة للأمة.
4 – أهم الآثار التربوية الحضارية للضابط التعبدي:
- تزويد المتربين بالطاقة الروحية المعينة على القيام بالواجبات الحضارية.
- تقوية نوازع الخير في النفس وحب الآخرين والتعاون الحضاري.
- تقوية روابط الأخوة الاجتماعية وتحقيق التماسك الحضاري.
- تربية الأجيال على الصبر والإحساس بمعاناة الآخرين ومحاربة الفقر والتخلف الاقتصادي.
- القيام بواجب الخلافة في الأرض والتعبد بتعميرها والاستفادة مما سخر للإنسان فيها.
- القيام بالأعمال الحضارية حبا في التعبد ونيلا لمزيد من الدرجات عند الله.
5 – أي حضور للضابط التعبدي في واقع مناهجنا التربوية؟
إن الإجابة عن هذا الإشكال يقتضي منا في الحقيقة القيام بفحص وتقويم لبرامجنا الدراسية من جهة، وبدراسة ميدانية استقرائية لواقع تطبيقها في مؤسساتنا من جهة أخرى، بغية تقديم تقرير ووصف دقيق عن هذا الحضور، ومع أن الوقت والوسائل لا تساعد على ذلك. فإننا نقدم تصورا عاما انطلاقا من تجربتنا كتلاميذ سابقا، وطلبة باحثين ومهتمين بالمجال التربوي، مفاده أن البرامج التربوية اليوم غيبت أو كادت الضابط التعبدي في سياستها التربوية ومناهجها ومقرراتها التربوية الجافة، والدليل الناتج الحاصل في واقعنا المعاصر: أطر تربوية تعاني من مفارقة غريبة، فمضمون المقرر في واد وسلوكه وأخلاقه في واد، ومعلمين استعبدتهم الرواتب، فغلب عليهم العجز والكسل، فأقبروا الإخلاص والإتقان… وهذا بدوره أنتج لنا أجيالا من المتعلمين، أبعد ما يكونون عن تلبية طموح البناء الحضاري المنشود، كيف لا؟ وهم لم يلقنوا ولم يكتسبوا الأدوات الضرورية لبناء الحضارة الإسلامية، فأصبحوا كأجساد بلا أرواح، وقلوب فارغة غير محصنة اخترقتها معضم سهام العولمة المنحرفة الفتاكة، فهجرت الأخلاق وقتل الحياء، وتضاءل مستوى التكوين وتراجع التعليم، فتعطل المشروع الحضاري الإسلامي برمته. فلا دينا أقمنا ولا دنيا عمرنا!!.
إن هذا الواقع المرير، الذي أنتجه تغييب الضابط التعبدي وغيره من الضوابط في حياتنا ومناهجنا التربوية، يقتضي منا أن نقف وقفة تأمل، ننظر أين نحن؟ وإلى أين المصير؟ ينبغي صدقا أن نراجع ذواتنا، ونحاسب أنفسنا، ونقف وقفة شاملة نراجع فيها مناهجنا التربوية وكذا منهاج حياتنا، ونقومها بموضوعية، لنضع اليد على الداء لتشخيصه بغية إيجاد الدواء المناسب له. والذي لن يكون في نظري إلا بالرجوع إلى تراثنا وأصولنا ومبادئ شريعتنا السمحة، لجعلها أرضية ننطلق منها لإيجاد مناهج متطورة وعصرية ولكن تلائم خصائصنا وتحافظ على مبادئنا وأصولنا، وخادمة لمشروعنا الحضاري الإسلامي الذي نتطلع إليه منذ أمد.
ذ. إبراهيم جيلو
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
عاطف السيد، التربية الإسلامية أصولها ومنهجها ومعلمها، صفحة: 10.
إسحاق فرحان، التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة: صفحة 31-32.
انظر: هاشم بن علي الأهدل، أصول التربية الحضارية في الإسلام: صفحة 174.