لا يخفى على عاقل ما تعيشه الأمة المسلمة من أوضاع مزرية تتمثل أساسا في:
حالات التنازع والتفرق، وتآلب بعضها على بعض، وتقاتل الإخوة الأشقاء تقاتل الفرقاء الأعداء، حتى إنه لم تعد هناك منطقة في العالم أكثر اشتعالا بالحروب والفتن من مناطق أمتنا الإسلامية العربية، ولم تعد أمة منكوبة بالفقر والحروب والكروب وتفرق القلوب مثلما هو حاصل في هذه الأمة.
حالات فقدان الثقة وضعف التعاون على الخير بين بلدان الشعوب العربية والإسلامية فيما بينها من جهة، وبين أبنائها داخل كل بلد على حدة من جهة ثانية؛ لأسباب لم يعد لها مسوغ لاعتبارات عديدة:
- تاريخية؛ إذ لم يعد مجديا إحياء خلافات الماضي البعيد التي نفخت فيها بغير حق نعرات قبلية باطلة، وتحزبات سياسية زائغة، وفرق كلامية وفلسفية متعصبة.
- وواقعية؛ إذ لم يعد في صالح الأمة وهي تستأنف عودتها الحضارية أن تبقى على هذا الوضع من التخالف والافتراق ولا تجنح إلى التآلف والتحالف والتآخي والتلاقي، كما لم يعد واقع التمزق مقبولا أمام موجة التحالف الدولي عليها وعلى خيراتها ومُقدَّراتِها، وعلى معاداة دينها وأبنائها.
- وشرعية؛ إذا نظرنا إلى قوة ما يجمع هذه الشعوب المسلمة من وحدة العقيدة والحضارة والتاريخ والرسالة واللغة، فلا توجد في عالم اليوم أمة تمتلك مشتركا قويا للوحدة والتوحد مثل الأمة الإسلامية. غير أن ما يحصل بين المسلمين اليوم من تدابر وتحاسد وبغي ليناقض ما ورد في الوحي من توجيهات للتوحد والاعتصام بالله جل وعلا؛ قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(آل عمران: 103)، ويخالف التوجيه الرباني بالتمسك بعرى الأخوة في الدين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(الحجرات: 10).
ولقد كان لهذا الجرح العميق أثره الخطير على واقع الأمة ومستقبلها وذلك:
- في تعقيد جهود درء مخاطر اتساع التمزيق والتفريق.
- في تعويق مساعي رأب الصدع، ولأم الجراح وإصلاح ذات البين.
- تأخير نهضتها أو إجهاضها، فيكون حال المسلمين كحال التي نقضت غزلها أنكاثا؛ قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا(النحل: 92).
- إشغال الأمة بفتنها عن مصالحها الحيوية، إذ ليس أضر بأمة من الأمم من انشغالها بما يعود على أصولها بالإبطال، والذهول عن الأولويات الكبرى في البناء.
ولعل أهم أولوية يجب على المسلمين اليوم الحرص عليها هي:
أولا: توحيد الصفوف ودرء مخاطر التفرق، وجمع الكلمة والتعاون على الخير، والفرح به من أي جهة جاء، وبذل غاية الجهد في تقوية الأخوة والتآخي وقطع أسباب التباغض والتلاحي.
ثانيا: إصلاح ذات البين وتقليص مساحات الخلاف وتوسيع مساحات الوفاق والائتلاف؛ والصلح خير(النساء: 128)، وقال رسول الله : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا بلى.. قال إصلاح ذات البين. وفساد ذات البين هي الحالقة» (أخرجه أحمد والترمذي وأبو داوود).
ثالثا: التخلق بأخلاق الإسلام أفرادا وجماعات وهيئات ومؤسسات، “حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس” (المستدرك على الصحيحين)، ولن يكون المسلمون كذلك إلا يوم تشيع بينهم أخلاق المودة والرحمة، والعدل والفضل، والبذل والعطاء، والصبر على الأذى والبلاء، والتغافر والتغافل، فأبناء الأمة المسلمة في حاجة إلى التراحم في ما بينهم والتعاون والتكافل والعدل، والتناصح والتناصر، وإلى أن ترفع عنهم مظالم إخوانهم، وبغيهم عليهم، وإلى أن يراعي إخوانهم كرامتهم وحقوقهم، فمن ذا ينصفك إذا لم ينصفك أخوك. قال «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره» (أخرجه البخاري، رقم: 6952)، وقال : «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرج الله عنه كربةً مِن كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة» (رواه الشيخان).
فاللهم ارفع بلاء التفرق عن المسلمين، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجمع كلمتهم على الحق المبين، ووحد صفوفهم لنشر الدين ورفع راية المسلمين.