قال ﷺ: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه.
إن رمضان شهر الثواب والمغفرة، وذلك لتحقيق الغاية الكبرى التي من أجلها شرع الصيام وهي تقوى الله تعالى. فما هي الشروط الواجب توفرها في الصائم لنيل مغفرة الله تعالى في رمضان؟ وما هي آثار مغفرة الله ذنوب الصائمين على المجتمع؟
أولا: الشروط الواجب توفرها في الصائم لنيل المغفرة في رمضان:
ذكر الرسول في هذا الحديث، ثلاثة شروط يجب على الصائم أن يتمثلها في هذا الشهر ليفوز بمغفرة الله ، وهي:
1 – القيام بفعل الصيام:
قال: «من صام رمضان» هذا الشرط الأول الذي يجب على المكلف العمل على إدراكه، وعبر بصيغة العموم ليفيد أن كل مسلم صائم لرمضان رجلا كان أو امرأة يُغفر له إذا حقق معنى الصيام، وتذوق معانيه التعبدية التي تشمل الإمساك عن كل الملذات والشهوات تقربا إلى الله تعالى، فيصوم باطنا وظاهرا، مصداقا لقوله : «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (صحيح البخاري). فالنهي عن قول الزور يشمل كل قول باطل، والعمل به يشمل كل فعل منهي عنه. قال المهلب: فيه دليل أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه (1) ومما يؤكد ضرورة وجود شرط الصيام بالمعنى التعبدي لمغفرة الذنوب قوله : «الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين». (صحيح البخاري).
ومن هنا؛ يتبين أن تطبيق قوله ﷺ«من صام رمضان» يتطلب إرادة قوية لمحاربة الشهوات، وضبط النفس عند الغضب، لذلك أرشدنا الحديث إلى أن نقول عند المواقف الصعبة إني صائم مرتين، للتذكير بضرورة الحفاظ على الصيام من كل المفسدات التي تفوّت على الصائم مغفرة الذنوب، وقد أشار إلى خلاصة هذا الشرط جابر، فقال: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء (2).
2 – التصديق بفرضية الصيام:
أشار الرسول ، إلى هذا الشرط بقوله «إيمانا» والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صوم رمضان (3). إن هذا الاعتقاد هو الذي لا يفهمه الذين ينادون بالإفطار العلني في رمضان، ويعتبر هؤلاء الناس أن الصيام أمر شخصي يندرج ضمن الحريات الفردية، وينسون أن الحق الشخصي هو الذي يتعلق نفعه وضرره بالفرد فقط، ولا يتأثر غيره به. والحرية الفردية بهذا القيد قليلة جدا؛ لأن من شأن الإنسان أنه كائن اجتماعي يرتبط وجوده بغيره في معظم شؤون الحياة.
وعليه؛ فمعظم الممارسات التي يعتقد البعض أنها تدخل في الحريات الفردية يدفع أثارها السلبية المجتمع بكامله، ومن هذا القبيل مرض “السيدا” الذي نتج عن ما يسمى بالحرية الشخصية وتُنفق عليه أموال عامة المواطنين، وكذلك حوادث السير، وجرائم القتل التي تكون بسبب السكر باعتباره حق شخصي عندهم.
إن صوم رمضان عبادة جماعية؛ بمعنى أن كل مسلم يجب عليه أن يصوم في خصوص هذا الشهر اضطرارا لا اختيارا، فلا وجود لمفهوم الحرية الفردية في ممارسة ركن الصيام. ومن هذا المنطلق؛ إن المنادي بحق الإفطار العلني في رمضان يعتبر مغتصبا لحق الجماعة، ومصادرا لاختياراتها العقدية والتعبدية.
3 – إخلاص الصائم القصد لله تعالى:
ويتجلى هذا الشرط في قوله ﷺ”واحتسابا” قال النووي: “ومعنى احتسابا أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص (4). لأن الصيام بهذا القصد هو الذي يغير نفس المسلم من حالها المادي الشهواني، ليسمو بها إلى العالم العلوي الروحاني، فتتطهر بيئة الأمة الإسلامية من كل مظاهر الفساد.
بيد أن واقعنا يهيمن عليه شكل الصيام دون جوهره، فالكذب، والغش، والقول الفاحش، وعقوق الوالدين، وإعلان الفاحشة، وغير ذلك من مظاهر الانحراف لا تكاد تختفي من حياتنا اليومية في هذا الشهر المبارك، بل هي في حالة تناوب مستمر، بعضها نهاري وبعضها ليلي، مما يجعلنا نتساءل وباندهاش شديد عن العلاقة التي تجمع بين شهر رمضان الذي هو في أصله شهر القيام والصيام، وبين هذا الكم الهائل من السهرات الماجنة التي تنظم في لياليه في معظم مدننا، فتتحول أماكن عمومية في هذا الشهر المبارك إلى مرعى خصب للفساد الأخلاقي، وصدق رسول اللهﷺ بقوله: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» (مسند احمد).
لا شك أن الخلل راجع إلى عدم تطبيقنا لمعنى كلمة احتسابا في صيامنا؛ لأن كل تعبد فيه إخلاص النية إلى الله، فالله حتما يباركه، ويظهر آثاره على الفرد والمجتمع، فينتشر الخلق الحسن والمعاملة الطيبة، مصداقا لقوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (البقرة: 183).
وعليه؛ فإذا تحققت الشروط أعلاه؛ نال الصائم المغفرة التي جاءت جوابا للشرط في قوله «غفر له ما تقدم من ذنبه» لأنه صام بحق فيغفر الله له جميع الذنوب غير الكبائر حسب قول الجمهور.(5) بدليل قوله : «… ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» صحيح مسلم
ثانيا: آثار مغفرة الله ذنوب الصائمين على الفرد والمجتمع:
من بين الآثار الإيجابية المستفادة من الحديث ما يلي:
1 – نشر قيم العفو والتسامح داخل المجتمع الإسلامي:
الصائم إذا غفرالله له في هذا الشهر، فإن ذلك يعنى أن صيامه قبل، وأن حاله تغير إلى الأصلح، فأصبح مسلما نافعا لنفسه ومصلحا لغيره، فيعمل جاهدا على نشر خلق العفو والتسامح بين أفراد بيئته؛ لأنه بدوره أخطأ بالاعتداء على حقوق الله مرات متعددة، فأنعم الله عليه وتجاوز عنه وغفر له، وبذلك تطهّر نفسه من داء الحقد والبغض، ويتربى على الصبر ليقابل السفاهة بالحلم، والإساءة بالعفو. فالمسلم في هذا الشهر المبارك مطلوب منه أن يتعلم هذه الصفات ويتمرن على ترسيخها داخل مجتمعه، فيغفر للناس زلاتهم ويسامحهم ابتغاء عفو الله عنه أيضا، قال تعالى: وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم (النور: 21). فالجزاء من جنس العمل، كلنا نعمل ونسعى للحصول على مغفرة الله، وننسى أن نتجاوز على من اخطأ في حقنا. وقد مدح الله أهل الجنة بصفات العفو فقال : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (آل عمران: 113).
وقد استطاع الرسول بخلق العفو والتسامح أن يقود الأمة الإسلامية إلى تحقيق أمجادها، وأن يربي جيلا من الصحابة لم يعرف التاريخ أفضل منهم في مكارم الأخلاق، ووضع للمجتمع الإسلامي منهجا يقوم على تقديم المصلحة العامة ونبذ التطرف في حب الذات، فقال تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر (آل عمران: 158). فأمره الله تعالى بالعفو والاستغفار للمخطئين ليتحولوا إلى مصلحين، ثم يشاركهم في تدبير الشأن العام بالمشورة ليتحمل الجميع مسؤولية النهوض بمصالح المجتمع دون إقصاء لأحد، وقد أرشدنا الرسول ﷺإلى ضرورة التحلي بخلق التسامح والصفح عن المذنبين عندما سئل عن عدد المرات التي يجب أن يُغفر فيها للخادم المسيء فقال: «اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة» (سنن أبي داود). فالمسلم الصائم المغفور له، يجب أن يتعلم من خلال ذلك نشر ثقافة التسامح بين أفراد المسلمين ليعم الخير كل المجتمع.
2 – توفير الأمن والاستقرار للأمة الإسلامية:
يستفاد من قولهﷺ : «غفر له ماتقدم من ذنبه» أن الصائم فاز بعفو الله، وهو بإدراكه لهذا الأمر ترتاح نفسه وتطمئن، ويعيش في أمن واستقرار لتذوقه نعمة المغفرة، مصداقا لقوله : «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (صحيح البخاري). لأنه مسرور بقبول صومه.
فيجب على المسلم أيضا أن يرحم غيره، ولا يسعى للانتقام من المسيء إليه ومبادلة السيئة بمثلها، وبخلقه هذا يتحقق الأمن والاستقرار داخل مجتمعنا؛ لان الصائم تربى في مدرسة الصوم أن يقول لمن شاتمه إني صائم، فنعيش في بيئة إسلامية يسودها السلم بدل الحرب، والأمن بدل الخوف، والاستقرار بدل الاضطراب، وكل هذا من صفات المسلم القوي الذي يحب الخير لأمته. وأسوتنا في ذلك رسول الله حين تمكن من مشركي قريش الذين عذبوا المسلمين حين كانوا ضعفاء فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، وهذه رسالة منه إلى أن المجتمع الإسلامي يجب أن يؤسس على قيم الأمن والسلم، وليس على فكرة الثأر والانتقام.
إن مغفرة المسلم لأخيه المسلم من أهم عوامل تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وترسيخ مبدأ الأخوة والتعاون، مصداقا لقوله : «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام” صحيح البخاري.
ذ. محمد البخاري
—————
1 – شرح صحيح البخاري لابن بطال، مكتبة الرشد، ج4، ص:23.
2 – مصنف ابن أبي شيبة، مكتبة الرشد، ط1، ج2، ص:271.
3 – فتح الباري لابن حجر، دار المعرفة، ج’، ص:115.
4 – شرح النووي على صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، ط2، ج6، ص:39.
5 – فتح الباري، ابن حجر، ج، 4 ص: 116.