ما سمي المسلم مسلما إلا لأنه سلم أمره كله لربه، مقتضى ذلك أنه يتلقى كل تعاليم الحياة من ربه الذي سلم إليه أمره كله، فلا يبحث عن متعة الحياة، ولا متطلباتها إلا في هذا الدين، وذلك معنى التسليم.
وإذا أراد رسم منهج لحياته فليعد إلى من سلم إليه صدقا؛ ليجد الرسول الكريم يقول له في ذلك: «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».
إنه منهج في الحياة لا يضاهى، منهج تتغاضى عليه القوى الفكرية المنظرة في دساتير الأمم، عنتا منها وكبرياء وتجبرا ليس إلا. منهج تجمعت أبعاده وقواعده في كلمات؛ غير أنها كلمات جامعة مانعة؛ بل هي نبوية ربانية كونية تتعالى عن كل النزعات البشرية العفنة.
والمنبت: هو المنقطع في سفره قبل وصوله، واختيار النبي للمسافر مثالا منهجيا للحياة، إشارة منه إلى أن الحياة محض سفر تتداعى إليه متاعب ومصاعب الحياة، بشكل فجائي، قد تحول بين المسافر ومبتغاه، كما توقف الحياة بغير سابق إشعار.
كما أشار إلى أن الشره في طلب الدنيا والدين منبوذ في الإسلام، وأن ذلك خروج عن الفطرة، ومن ثم خسارة الجانبين لا محالة. قال : «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإِنْ قلّ».
ويشير هنا إلى أن الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق، الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له، وأن الأولى في العبادة القصد والملازمة؛ لا المبالغة المفضية إلى الترك.
ولا يخفى على ذي لب ما لبيداغوجية المثال في المنظومة التربوية، وفي المنهج النبوي خاصة، والقرآن الكريم يشيد بذالك إشادة عظمى؛ بل أسس كتاب الله تعالى مسارا تربويا قام كله على بيداغوجية المثال، سواء تعلق الأمر بالعقيدة وأسسها الإيمانية، أو تعلق بالحياة العملية للمؤمن، إذ استدرج كتاب الله مشاهد كونية عبر المثال القرآني، وأخرى من ضروب الخلق من الكائنات الدالة على عظمته سبحانه.
بل إن للمثال في الخطاب الشرعي، عموما، ريادة لا تنازع في كشف وتشخيص المعنى المقصود بلا حاجة لمزيد بيان.
ففي إهانة واحتقار عمل المنافقين في دنياهم، يقول سبحانه: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (آل عمران: 116).
والصر في الريح: شدة في الدفع، أو شدة في الصوت.
وقال سبحانه بعد تقديم واقعة ابن آدم وهو يواري جريمة القتل: قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي (المائدة: 31)
وفي كشف كتاب الله حال من اتبع هواه، وكفر بما أنزل على محمد، يقول تعالى عبر المثال: فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا (الأعراف: 176).
ويكشف كتاب الله تعالى تفاهة دنيا الناس وخفة ظلها بالمثال، فقال سبحانه: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناهـا حصيدا كأن لم تغن بالأمس (يونس: 24).
وإذا كان ضرب المثال بيداغوجيا وتربويا بهذا القدر العظيم في كتاب الله تعالى، فإنه في السنة المطهرة لا يقل عن ذلك قدرا، ولو سمح المقال بالسعة في ذلك لفعلت.
وفي حديث هذا المقال إشارات نيرة بالمثال في هذا المعنى المثير للمنهج الرباني في الحياة، وما ينبغي أن يكون عليه من ابتغى بحياته رضوان الله تعالى، وينطبق عليه قوله تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين (الأنعام: 162).
فالمنبت في الحديث، مثال لمن يتلهف من وراء كل حطام، يبتغي جمعه، واحتواءه في سرعة لا تقاس، وكله شغف لبلوغ درجات الغنى والتفوق في امتلاك أكبر قدر من زينة الدنيا، مع أنه لا يملك لتلك السرعة، وذلك الشغف طاقة ذاتية ولا وسيلة تناسب طموحاته الجامحة، فيكون جهده حلما صعب المنال في أول الطريق، ولعله ينال مبتغاه لو استنار بالمنهج الرباني الذي قدمه لنا رسول الأمة جليا في قوله : «اكلفوا من العمل ما تطيقون».
بل إن الله تعالى ذم المغالين في طلب الدنيا والدين فقال سبحانه: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم (الحديد: 27). فوبخهم على ترك التمادي فيما دخلوا فيه، ولهذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص حين ضعف عن القيام بما كان التزمه: “ليتني قبلت رخصة رسول الله “. قال : «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق».
ذنب المنبت أن ترك الرفق بنفسه وروحه، وابتغى رزقه من غير وجهته فخسر ذلك كله…
- شرح صحيح البخاري لابن بطال 4 – 120 تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم دار النشر: مكتبة الرشد – السعودية، الرياض الطبعة الثانية 1423هـ – 2003م.
– موطأ مالك’ ت: محمد فؤاد عبد الباقي 1 – 118. الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان’ عام النشر: 1406 هـ – 1985 م وجاء بلافظ “إن الله تبارك وتعالى لا يمل حتى تملوا’ اكلفا من العمل ما لكم به طاقة”.
– مسند الإمام أحمد ط: الرسالة 20 – 346.
د. عبد الرحمن بوعلي