القرآن الكريم معجزة الله الخالدة، وكلامه المنزل على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وصفه منزله جل وعلا بأنه كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود: 1)، وجعله كتابا سويا، يأخذ بالأبصار، ويستحوذ على العقول والأفكار، وهو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرةِ الردِّ، ولا تنقضي عجائبه..
ومن عجائبه كثرة معاني آياته، وغزارة فوائد سوره ولو كانت السورة قصيرة كسورة العصر التي قال عنها الإمام الشافعي رحمه الله: “لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم”.
قال : وَالْعَصْرِ إِنَّ اْلإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
سبب نزولها :
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا بكر لما أسلم قال له المشركون: خسرت يا أبا بكر حين تركت دين أبيك، فقال أبو بكر: ليس الخسارة في قبول الحق إنما الخسارة في عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنكم شيئا، فنزل جبريل بهذه الآية (والعصر).
من معاني السورة :
كلمة (العصر) فسرت على معاني عدة أجملها فيما يلي:
الأول: أنه الدهر، لأن فيه عبرة للناظر من مرور الليل والنهار على تقدير لا ينخرم. وذلك لأن المشركين كانوا يضيفون النوائب والنوازل إلى الدهر، فأقسم به تنبيها على شرفه وأن الله تعالى هو المؤثر فيه فما حصل فيه من النوائب والنوازل كان بقضاء الله وقدره. وقيل: إن المقسم به محذوف وتقديره (ورب العصر). وروي عن النبي أنه كان يقرأ: (والعصر ونوائب الدهر)، على وجه التفسير لا على أنها قراءة.
الثاني: أنه الليل والنهار ويقال لهما: العصران. قال الشاعر:
وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ
إِذَا اخْتَلَفَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا
والليل والنهار آيتان من آيات الله جل وعلا، يتكون منهما عمر الإنسان، وهما يعملان فيه فيلزمه أن لا يكون من الغافلين وأن يعمل فيهما، فقد روي عن عمر بن عبد العزيز قال: “إنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما”. وقال أبو العتاهية:
إنّا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يومٍ مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً
فإن الربح والخسران في العمل.
الثالث: أنه الغداة والعشي، فالغداة هي الضحوة، أو الوقت الواقع ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، وفي حديث فضالة بن عبد الله الليثي، قال: أتيت رسول الله ، فأسلمت وعلمني الصلوات الخمس في مواقيتها، قال: فقلت له: إن هذه ساعات أشتغل فيها، فمر لي بجوامع، قال: فقال : «إن شغلت، فلا تشغل عن العصرين»، قال: قلت: وما العصران؟ قال: «صلاة الغداة، وصلاة العصر».
أما العشي فهو ما بين زوال الشمس وغروبها، ومنه قول الشاعر:
تَرَوّحْ بنا يا عمرُو قد قصر العَصْرُ
وفي الرَّوْحةِ الأُولى الغنيمةُ والأَجْرُ
الرابع: أنه صلاة العصر لفضلها، بدليل قوله تعالى في مصحف حفصة رضي الله عنها: (والصلاة الوسطى صلاة العصر)، وهي قراءة شاذة تفسيرية. وقوله : «الذي تفوته صلاة العصر، كأنما وتر أهله وماله». ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم.
الخامس: قيل أراد بالعصر زمن رسول الله أقسم بزمانه كما أقسم بمكانه في قوله: لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد (البلد: 1-2)نبه بذلك على أن زمانه أفضل الأزمان وأشرفها.
هذه مجمل ما ذكره أهل العلم في معنى كلمة (العصر) التي أقسم الله بها في بداية هذه السورة التي تسمت باسمها. والله تعالى حين يقسم ببعض مخلوقاته المادية والمعنوية، فهو ينبه أولا على شرف المقسم به، وثانيا ليثير انتباه السامع إلى القصد من القسم، وهو هنا ما توضحه بقية السورة.
وجواب القسم قوله تعالى: إن الإنسان لفي خسر أي لفي خسران ونقصان. والإنسان لا ينفك عن خسران، لأن الخسران هو تضييع عمره، وذلك لأن كل ساعة تمر من عمر الإنسان إما أن تكون تلك الساعة في طاعة أو في معصية، فإن كانت في معصية فهو الخسران المبين الظاهر، وإن كانت في طاعة، فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان بها فكان فعل غير الأفضل تضييعا وخسرانا، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد من خسران.
< وقيل: إن سعادة الإنسان في طلب الآخرة وحبها والإعراض عن الدنيا، ثم إن الأسباب الداعية إلى حب الآخرة خفية، والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرة، فلهذا السبب كان أكثر الناس مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في خُسَاٍر وبوار قد أهلكوا أنفسهم بتضييع أعمارهم..
< وقيل: أراد بالإنسان الكافر بدليل أنه استثنى المؤمنين فقال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، يعني فإنهم ليسوا في خسر، والمعنى أن كل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله تعالى فهو في صلاح وخير، وما كان ضده فهو في خسر وفساد وهلاك.
< وقيل: أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم لفي نقص وتراجع إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات فإنهم تكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم، وهي مثل قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (التين:4-8).
وقوله: وتواصوا أي أوصى بعض المؤمنين بعضا، بالحق يعني بالقرآن والعمل بما فيه، وقيل بالإيمان والتوحيد، وقيل بالله . وتواصوا بالصبر لأنه لا عمل أفضل من الصبر، ولا ثواب أكبر من ثواب الصبر ولا زاد إلا التقوى، ولا تقوى إلا بالصبر، ولا معين على الصبر لله إلا الله . فالصبر لا بد منه لأداء الفرائض وإقامة أمر الله وحدوده.
ومهما يكن معنى التواصي في السورة فإن الفعل فيها جاء على صيغة (تفاعل) الذي يقتضي المشاركة والمفاعلة من طرفين، أي أن التوصية أو الإيصاء لا يكون من جهة إلى جهة على وجه الدوام، بل المؤمن أحيانا يكون موصِياً وأحيانا أخرى يكون موصَى، لأن المؤمن متقلب بين القوة والضعف، وبين الطاعة والمعصية، وبين زيادة الإيمان ونقصانه.. فهو إما موصٍ وإما موصَى..
يقول الشيخ الشعراوي معلقا على المفاعلة في فعل (تواصوا): “إن الحق جاء بكلمة (وتواصوا)، ولم يأت بكلمة (وَصَّوْا) وذلك لنفهم أن التوصية أمر متبادل بين الجميع، فساعة يوجد إنسان في لحظة ضعف أمام المنهج، وتوجد لحظة قوة عند غيره فيوصيه”.
وترد هذه المسألة أيضا إلى الموصي، فقد تأتي له لحظة ضعف أمام المنهج؛ فيجد من يوصيه وهكذا نرى أنه لا يوجد أناس مخصوصون ليوصوا، وآخرون مهمتهم تلقى التوصية، إنما الأمر متبادل بينهم، وهذا هو التكافل الإيماني، والإنسان قد يضعف في مسألة من المسائل فيأتي أخ مؤمن يقول له: ابتعد عن هذا الضعف.. إن هذه المسألة تحدث بالتناوب لمقاومة لحظات الأغيار في النفس البشرية؛ لأن لحظات الأغيار لا تجعل الإنسان يثبت على حال، فإذا ما رأينا إنسانا قد ضعف أمام التزام ما، فعلينا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، وأنت أيضا حين تضعف ستجد من أخوتك الإيمانية من يوصيك.
هذا هو الحال في أمة محمد ، أما الأمم السابقة عليها فقد كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
ولابن القيم كلام قيم في التعليق على قوله تعالى: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مجمله أن الإنسان في هذه الدنيا بين فتنتين؛ فتنة الشبهات وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.
ففتنة الشبهات تكون من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، إِنْ يَتّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنُفُس (النجم: 23). فاتباع الهوى سبب للضلال عن سبيل الله، قال عز من قائل: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتّبِعِ الْهَوَى فَيضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (ص: 26).
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهى فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التى اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال.
ولا يُنجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول ، وتحكيمه فى دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه.. وكل ذلك لا يكون إلا بالتواصي بالحق.
وأما النوع الثانى من الفتنة. ففتنة الشهوات وهي التمتع بالدنيا وشهواتها خارج حدود أحكام الشريعة بفعل المحظورات وترك المأمورات استجابة لشهوتي الفرج والبطن وداعي النفس الأمارة بالسوء.. وهذه الفتنة لا عاصم منها إلا بالتواصي بالصبر..
ففتنة الشبهات تدفع بالتواصي بالحق، وفتنة الشهوات تدفع بالتواصي بالصبر، ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.
فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثانى: أصل فتنة الشهوة.
وبهذين النوعين من التواصي تنال الإمامة في الدين ويستقيم العبد على صراط الله المستقيم، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنّهُمْ أَئمِةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون (السجدة: 24). لذلك جمع الله بينهما في هذه السورة، سورة العصر فكانت من أعظم ما نزل من القرآن الكريم، حتى قال الإمام الشافعي عنها: “الناس في غفلة عن هذه السورة. لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم”.
فاللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن الكريم، وبارك لنا بالآيات والذكر الحكيم، واجعلنا ممن يقرأه فيرقى ولا تجعلنا ممن يقرأه فيشقى.. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذ. عبد الرفيع حجاري
——————-
- تفسير الإمام الشافعي 3/1461.
- (بحر العلوم) للسمرقندي، 3/615.
- معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/341.
- أدب الدنيا والدين للماوردي ص:122.
- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي ص:304.
- الكليات للكفوي ص:982. وتاج العروس للزبيدي 39/144.
- رواه ابن حبان في صحيحه، باب ذكر وصف البردين اللذين يرجى دخول الجنة بالصلاة عندهما، حديث:1741.
- لسان العرب لابن منظور 4/576.
- رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب إثم من فاتته العصر، حديث:552.
- لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 4/466.
- تفسير الشعراوي 3/1571.
- بتصرف شديد من كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) 2/165 وما بعدها.
- تفسير الإمام الشافعي 3/1461.