يعد الغش من الخروق الخطيرة التي تتنافس ضمن كبريات الخروق من أجل الإجهاز على سفينة المجتمع، بتفتيتها وتمزيق نسيجها، وتفكيك روابطها، ومن أسباب خطورته وعتوه أنه بمثابة السم الزعاف الذي ينتشر في مادة من المواد، أو سائل من السوائل، فيفسده ويلوثه، فهو يخترق كل مكونات السفينة ومفاصلها، ويهاجم كل مرفق من مرافقها، بهدف شل فاعليته وتعطيل وظيفته، وهو في أحسن الأحوال لا يقنع بأقل من إلحاق تشوهات بتلك المكونات والمفاصل والمرافق، فتكون في حالة إعاقة لا تتوقف عن التفاقم والاستفحال حتى تجهز على السفينة ومن عليها، وتذرها كالحطام، أو كالجسم الذي أحاطت به الأدواء والعلل، وراح في أحسن الأحوال يمشي بخطى واهنة متثاقلة، ويوشك أن يسقط متهالكا مغشيا عليه في أي لحظة من اللحظات.
و الغش لغةً: نقيض النُّصح، وهو مأخوذ من الغشش: المشرب الكدِر، وغشَّه يغشَّه غشًّا من باب قتل:لم يمحضه النُّصح، وأظهر له خلاف ما أضمره، وزين له غير المصلحة. والغشُّ: الغلُّ والحقد، ولبن مغشوش مخلوط بالماء، وغَشَّشَه تغشيشًا، مبالغة في الغِشِّ. ومعنى الغش اصطلاحًا: قال صاحب التنبيهات: (الغِشُّ: كتم كل ما لو علمه المبتاع كرهه). وقال المناوي: (الغشُّ ما يخلط من الرَّديء بالجيِّد).
إننا بتدبر دلالات الغش لغة واصطلاحا ينكشف لنا وجهه السافر باعتباره مضادا للدين الصحيح، علما أنّ «الدين النصيحة» كما ورد في الحديث النبوي الشريف، وأنه سبب للكدورة والتلوث اللذين يصيبان كل شيء مما له علاقة بحياة الناس ومعاشهم، فيعرضانه للتلف والتشوه، ويخرجانه من طبيعته الحقة، بدرجة من الدرجات، تتوافق مع شحنة الغش التي تتوافق بدورها مع درجة الاختلال التي يشكو منها تدين الإنسان الممارس للغش، أو إحساسه بالانتماء للمجتمع الذي هو عضو فيه أو محسوب عليه.
كما يتبين لنا من تدبر معاني الغش كونه ملمحا من ملامح الزور والنفاق وتجليا من تجلياتهما السافرة، إذ هو في جوهره خيانة ممن اتصف به للأمانة التي هو مؤتمن عليها، وإدلاء سلوكي عملي بشهادة باطلة تتعلق بمعطى من معطيات الواقع، يترتب عنها فساد لسفينة المجتمع، وانخراق لها من جميع أضلاعها وجوانبها.
ولفداحة خلق الغش اعتبر الرسول مقترفه خارجا من دائرةالانتماء الحقيقي لجماعة المسلمين، لأن الانتماء الحقيقي لها لا بد أن يعبر عن الحرص على نفعها والنصح لها في كل شأن من شؤونها، يقول الرسول فيما رواه أبو هريرة وأخرجه مسلم رحمه الله: «من غشنا فليس منا» وهذا دليل واضح على أن العبرة في الانتماء للدين ليست بالمظاهر والأشكال في حد ذاتها، ولكن بالعمل الصالح الذي يشترط فيه الصدق والإخلاص. بل إن الإسلام ليعبر عن رحابة صدره وشمول سموه وسموق قدره ورحمته العامة عندما يحرم الغش ليس فقط في نطاق جماعة المسلمين، ولكن في النطاق العام للإنسانية، ولذلك يقول رسول الله في رواية أخرى عن أبي هريرة : «من غش فليس مني»، وذلك في سياق نهيه عن غش الطعام في السوق. فقد مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام»، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال : «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني».
إن نهي الإسلام بهذه الصرامة المتناهية عن الغش، يعتبر مظهرا من مظاهر إعجازه الخلقي والتشريعي، ودليلا قاطعا على نزعته العميقة والشاملة لصياغة مجتمعات يغلب عليها الصفاء والنقاء، ويطبعها الصدق والوفاء، فالمجتمع المسلم الحق لا مكان فيه للغش والغشاشين.
ولكن الذي يحز في نفس المسلم الغيور ويورثه ألما ممضا وهما كبيرا هو أن الغش أصبح هو العملة الرائجة في مجتمعاتنا الإسلامية بدون استثناء، فهو منتشر فيها انتشار النار في الهشيم، فلا يكاد يسلم منه مجال من المجالات ولا معاملة من المعاملات، سواء منها ما كان مقننا سافرا كالتعامل الربوي في المصارف والأبناك، أو ما كان خفيا كالمعاملات التجارية والصناعية، أو مما تراوح فيه الخفاء والإعلان كما هو الأمر في التعليم، من حيث عملية التعليم في حد ذاتها، أو من حيث ما هو مدسوس في مضامينه من سموم وألغام وأباطيل، أو من حيث ما يقع في الامتحانات، أو مما يقع على مستوى لباس المرأة الذي ينسب للحجاب وما هو بحجاب، نظرا لما خالطه من غش في الفهم والتطبيق، وعلى هذا الغرار ابتليت مجتمعاتنا بممارسة الغش في تدينها بشكل عام، وهو ما كان يطلق عليه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله التدين المغشوش .
إن الذي ينقذ سفينة مجتمعنا من وباء الغش وفيروسه الخطير، هو مراجعة شاملة للسير، ورجعة صادقة لمعين الدين في خلوصه وصفائه.
يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاة وَيُؤْتُوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دِين الْقَيِّمَة ( البينة: 5).
د. عبد المجيد بنمسعود