ثالثا: من عواقب الفتن على الفرد والمجتمع:
1 – اختلاط الحق بالباطل وتصدر السفهاء لأمور المسلمين:
إن من عواقب الفتن الوخيمة؛ التباس الحق بالباطل على المسلم لقوله: «يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا» والأمر هنا لا يتعلق بفرد واحد؛ بل هي ظاهرة عامة تشمل المجتمع الذي يتخبط في الفتن، ومن أسوء مخاطرها على الإطلاق، أن ينسلخ المسلم عن دينه فيموت على الكفر والعياذ بالله تعالى.
والكفر الوارد في الحديث شامل؛
- لكفر النعم الذي لا يخرج عن الملة، بحيث يوصف صاحبه بالفسق لانتهاكه حرمات الله -بالفعل أو الترك- كالامتناع عن الصلاة، وأكل الربا، وشرب الخمر، مع اعتقاده حرمة ذلك،
- ولكفر الاعتقاد إذا كان يفعل كل هذه المحرمات بالنص الصريح، وهو يعتقد أنها مباحة؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
إن عدم تمييز بعض المسلمين بين الحق والباطل عند الفتن أمر طبيعي إذا ما نظرنا للوسائل التي يستعملها أهل الفساد في التدليس على المنكر، وإظهاره في صورة المعروف الذي لا غبار عليه؛ فهم يصورون المسلم الذي يعتمد الطرق المشروعة لكسب رزقه، ويتعامل دون غش أو مكر بأنه غبي ومغفل لا يدرك واقعه، والذي يظلم الناس وينتهك حقوقهم ويستغلهم، بأنه ذكي وفطن يعرف من أين تؤكل الكتف، وهذا كله قلب للقيم ومفاهيمها. وقد أشار النبي إلى هذه النتيجة السيئة للفتنة فقال: «… لا تقوم الساعة حتى…. يخون الأمين، ويؤتمن الخائن، ويَهْلك الوُعُول ويظهر التُّحُوت» قالوا: يا رسول الله، وما الوعول؟ وما التحوت؟ قال: «الوعول: وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» (المستدرك للحاكم).
يجب على المسلم في واقع كهذا أن يتحرى الحق؛ لأن بصيرة الناس تعمى عند الفتن بكثرة المعاصي التي يتخبطون فيها، وصدق الرسول في وصف ذلك بقوله: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء … لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه» (صحيح مسلم).
ومما يزيد من اضطراب الموقف وغموضه؛ أن رؤوس الفتنة يتصدرون أمور الناس، ويصيرون قدوة لغيرهم في مختلف المجالات، فتعم الفوضى، وينتشر الجهل كما أخبر النبي الأعرابي الذي سأله عن الساعة فقال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (صحيح البخاري). فالحديث ناطق بما نحن فيه من إعلاء شأن أهل الفجور والفسق باسم الفن وغيره، فيقربون ويكرمون، ويشيعون في جنائز مهيبة، وتعقد لهم المحافل أحياء وأمواتا، كما أشار إلى ذلك الحديث السابق: «ويهلك الوعول ويظهر التحوت». فيفتح المجال لأصحاب الأهواء من السفهاء المتصدرين للتقرير في مصير العامة، وذلك زمن الرويبضة الذي أخبر به النبي ، قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: «السفيه يتكلم في أمر العامة» (مسند أحمد).
فمن عواقب الفتن أن أهل العلم والصلاح يُهْجَرون، ويضيق عليهم الخناق فلا يستشارون، بل أحيانا يؤذون ويوصفون بالتطرف ودعاة الإرهاب، فلا يجد المسلم من يرشده إلى الحق، إما لاختفاء أهل العلم النافع، أو لانتحال صفتهم من أهل الجهل كما قال الرسول : «… حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلو» (صحيح البخاري).
2 – قلة التدين وإعلان الفاحشة:
إن من عواقب الفتن وشرها؛ أن المسلم يهون عليه دينه، ويتركه لأمور دنيوية تافهة كما جاء في آخر الحديث أعلاه، «يبيع دينه بعَرَض من الدنيا» فمن أجل الحصول على وظيفة، أو الظفر بمنصب، أو اعتلاء مكانة اجتماعية يتخلى المسلم عن دينه، فهو بيع، وبئست الصفقة.
فالكثير من شبابنا ممن فتنوا بالدنيا، يهاجرون إلى دول غربية للبحث عن العمل، ويبيعون من أجل ذلك دينهم ومبادئهم، فيجتهدون في تعاطي كل أنواع الفحش والمنكر كي يظهروا لغيرهم أنهم حداثيون ومندمجون، كما لا يبالون بنوع العمل الذي يقومون به من الناحية الشرعية؛ فهمهم الحصول على المال فقط، ولم يعد الأمر الآن يقتصر على الرجال، بل شمل النساء أيضا، ومنهن المتزوجات؛ حيث يذهبن إلى دول أوروبية للعمل في الحقول بعيدات عن بيوتهن وأهلهن، وقد سمح لهن بذلك الزوج أو الأب المسلم ضاربا بدينه عُرْض الحائط، وصدق رسول الله ، حيث قال: «ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام» (صحيح البخاري).
ومن أخطر عواقب الفتن أيضا؛ الجهر بالفاحشة ونشرها دون خوف أو حياء من الله تعالى، ولهذا تعوذ النبي من هذا الواقع فقال: «يا مَعْشَرَ المهاجرين، خمس إذا ابْتُلِيتُمْ بهن، وأعوذ بِالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتّى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطَّاعون والأَوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا..» (سنن ابن ماجه).
فكثير من الأسر يشجعون أولادهم على إعلان الفاحشة منذ الصغر، فيربونهم على اللباس الفاضح، ويصاحبونهم إلى أماكن العري والاختلاط الماجن على الشواطئ، وفي الحفلات، فيتربى الطفل وقد تطبع مع الفاحشة، وأصبحت جزءا من حياته اليومية، مما يجعل التبرجَ واتخاذَ الخدن وممارسةَ الرذيلة أمرا عاديا وحريةً شخصيةً عنده لا شأن لأحد بها، وكل ذلك من سوء تربيتنا لهم، ويساعد على ذلك كثير من وسائل الإعلام المضللة، التي وفرها رب الأسرة لهم دون مراقبة أو توجيه.
وقد اسْتُغِلَّتِ المرأة للجهر بالفاحشة استغلالا بشعا أنذر النبي بخطورته، فقال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على أمتي من النساء على الرجال» (مسند أحمد). وها نحن نرى المرأة الآن تتخذ العري في الشارع العام، مظهرا احتجاجيا تدافع من خلاله عن المثليين، وتطالب بواسطته بتقنين الدعارة في البلدان الإسلامية، وتسانَد من طرف منظمات وجمعيات بعضها يمول بأموال المسلمين. وكل ذلك يحدث تحت غطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن المرأة صُوِّرت لها الفاحشةُ باعتبارها موضة، وشكلا من أشكال التعبير عن التحرر، فصدقت ذلك كما أخبر الرسول : «… واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (صحيح مسلم). فركز أهل الفساد على المرأة لضرب تدينها وهدم قيمها باسم المساواة مع الرجل، وغير ذلك من الشعارات الشيطانية التي %