1 – تجليات قيمة الأمن:
أ – الأمن اللغوي: ويقصد به ذلك الوضع الذي تكون فيه لغة الأمة محمية من كل ما يمكن أن يتهدد وجودها من الغوائل والأخطار، إما من خلال تشويه صورتها، أو إضعاف أدائها، بإقصائها من معترك الحياة، وتجفيف منابع قوتها وإيقاف أسباب انطلاقها وتطورها واغتنائها.
ويمكن التمييز في هذا النوع بين مستويين:
< المستوى الفردي: الذي تضطلع فيه المدرسة بالقسط الأهم من المسؤولية، بما تمتلكه من أسباب وآليات ومداخل تربوية يفترض فيها الفعالية والنجاعة، ويكون فيه الخريجون هم المؤمنين وهم الأمناء في ذات الوقت على تلك اللغة وميراثها، بما استودعوا من أسرارها ومبادئها وقواعدها، وبفعل امتزاج كيانهم العقلي والوجداني بصورها وتراكيبها، وامتصاص عناصرها الثقافية.
< والمستوى المجتمعي: الذي يتحمل مسؤولية الأمن اللغوي فيه هو المجتمع العام ممثلا بمختلف مؤسساته، الرسمية والمدنية، من خلال قرار سياسي واضح، وخطة عمل محكمة البناء، محددة المقاصد والغايات.
ويهمنا في هذا المقام تناول المستوى الأول ببعض المعالجة، من خلال رسم صورة مركزة لما يؤديه منهاج المواد الإسلامية في مرحلة التعليم الابتدائي الأصيل ضمن ما هو منوط به من تحقيق الأمن اللغوي لدى مستهدفيه وخريجيه، ومن خلالهم للمجتمع الذين هم أعضاء فيه.
من البديهي أن نقول هنا بأن القاعدة الصلبة والأساس المكين الذي يقوم عليه منهاج المواد الإسلامية في هذه المرحلة هو القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والسيرة النبوية المطهرة، وهذا يعني بوضوح، أن تلاميذ هذه المرحلة سوف يحظون بفرصة ثمينة لأن يربطوا صلتهم بخزان عظيم ومعين ثر لا ينضب من الألفاظ والمصطلحات والمعاني التربوية السامية، التي تختزن شحنات تعبيرية هائلة، وصيغا وتراكيب وأساليب غاية في الخصوبة والتنوع، تحمل في ثناياها حقائق عن الكون والإنسان، وعن الطبيعة وما وراء الطبيعة، أي عالمي الدنيا والآخرة، ويفتح الأطفال في هذه المرحلة بفضل اتصالهم الوثيق بالقرآن والسنة والسيرة أبصارهم وبصائرهم على عالم فسيح لقصة الإنسان وكفاحه المرير من أجل بناء الذات وتحقيق التحرر الحق من خلال استثمار ما سخره له خالق الكون والإنسان من ذخائر وطاقات، وإمكانات وخامات، استجابة منه لأمر الاستخلاف المتمثل في قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة ، وتجسيدا لمعنى التكريم المتمثل في قوله تعالى: ولقد كرمنا بني آدم .
وإذا نحن عرفنا أن القرآن الذي هو كلام الله جل جلاله، هو الأساس الذي قامت عليه النهضة العلمية والخلقية، وارتفع عليه صرح الحضارة الإسلامية السامق، لكون جميع العلوم انبثقت من ثنايا آياته البينات، ولكون الألفاظ التي تنزلت بها تلك الآيات هي مفاتيح العلوم، كما أفاد بذلك ونص عليه علماء القرآن ومصطلحاته، عرفنا مقدار القوة اللغوية التي يمكن لتلامذة الطور الابتدائي اكتسابها، والحال أن حوالي خمسين حزبا هي قوام مادة القرآن المقررة لهذه المرحلة البالغة الأهمية والحيوية في حياة الطفل، على مستوى البناء اللغوي، وما يستصحبه من مستويات أخرى لا تنفك عنه، بحكم علاقة اللغة ببناء الفكر والوجدان، هذا من حيث الحكم العام، فما بالك بالقرآن، كلام الرحمن الرحيم.
وإذا نحن عرفنا أن ألفاظ الحديث النبوي الشريف، هي ألفاظ من أوتي جوامع الكلم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أمكننا أن ندرك الوضع المتميز لمتعلمي هذه المرحلة الحساسة على صعيد امتلاك ناصية اللغة، وما يرتبط بها من وظيفة البيان، وأن نتصور ما يؤهلهم له هذا الوضع المتقدم في مراحلهم التعليمية التالية.
إنه لقمين بهذا الوضع المتقدم والمتميز أن يمكن خريج التعليم الأصيل الجديد، من إمكانيات واعدة للإبداع، وأن يكون له لقاحا ضد أي فصام نكد، يخيم بشبحه القاتم، ويحط بكلكله الثقيل، حينما تنزلق المنظومة التعليمية إلى اقتراف إساءة في حق لغة القرآن، بالانتقاص من موقعها وقدرها، بأي شكل من الأشكال.
ب – الأمن الروحي والعقلي المنهجي:
يتحقق الأمن الروحي لدى تلاميذ المرحلة الابتدائية من خلال اتصالهم المستمر والوثيق بما تقدمه السور والآيات القرآنية من حقائق وبصائر وبلاغات تحرك مكامن النفس، وتعزف على أوتار الفطرة، وتلامس شغاف القلوب، إنها بصائر تتعلق بيقينيات الاعتقاد والتشريع والقيم، وهي تحرك الوجدان عبر أسلوب الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، بذكر أحوال أهل الجنة وما أعده الله لهم من نعيم، وأحوال أهل النار وما أعد لهم من أهوال الجحيم، كما يتحقق ذلك الأمن من خلال بيان طبيعة العلاقة بين العبد وربه، والتعبير عن تلك العبودية بواسطة عبادات محددة مضبوطة، تشكل بلسما وزادا للروح يشعرها بأصلها العريق ومنبتها الأصيل، وموقعها المتميز من رب العالمين، وبشلال الرحمة الذي ينساب نديا عبر النداء الرباني للمؤمنين: يا أيها الذين آمنوا . وتؤطر تلك الحقائق من خلال ما يرسمه القرآن الكريم من صور رائعة لبلاء الصفوة المختارة من خلقه التي يمثلها الأنبياء والمرسلون، الذين يمثلون موقع التأسي والاقتداء، ذلك الاقتداء الذي وجد خلاصته الرفيعة وذروته السامقة في شخص سيدهم وخاتمهم سيدنا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. إنه أمن روحي من شأنه أن ينعكس على نفوس التلاميذ سعادة وتوازنا، وسكينة واطمئنانا، ويفيض مع ذلك على من حولهم.
ويتحقق الأمن العقلي والمنهجي لدى التلاميذ من خلال تعاملهم مع ما يعرضه الكتاب العزيز من حقائق الكون الذي يمثل كتاب الله المنظور، مع الدعوة إلى التأمل وتعميق النظر، للتثبت من الحقيقة الكونية الكبرى، حقيقة وحدانية الله الخالق الرازق المتصف بجميع صفات الكمال التي تتردد عبر آي الذكر الحكيم، في سياقات موحية بعظمته وقيوميته سبحانه وتعالى. من ذلك قوله جل وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار (آل عمران: 190 – 192).
وتترسخ أسباب الأمن العقلي والمنهجي في أذهان تلاميذ الابتدائي الأصيل الجديد، بفضل تمثلهم لأساليب الحوار القائمة على الحجاج العقلي، الذي يوظفه القرآن الكريم في دحض دعاوى الجاحدين، وتسفيه تخرصات المبطلين المعاندين، وبفضل تشربهم لمنهج التفكير السليم، وما يتأسس عليه من قواعد يتجاوب معها كل عاقل ذي فطرة سليمة وحس قويم، قواعد الاستدلال التي تقضي بربط النتائج بمقدماتها، والمسببات بأسبابها، وبلفظ كل تفكير سقيم عار عن مبادئ المنطق السليم، تلك التي تعارفت عليها الإنسانية خلال تاريخها المديد.
ويتعزز هذا المطلب العزيز بما تقدمه مادة الحديث النبوي الشريف من أساليب تمثل نقاء التفكير وجودة التحليل والربط والاستنباط، وما يقدم للتلاميذ على مستوى الفقه وما يمثله من نموذج بديع يشكل نتاجا غنيا وثمرة يانعة لتعامل الفقهاء الراسخين في العلم مع القرآن والسنة، ومن خلالهما مع نوازل الواقع ومشكلات الحياة المتجددة عبر العصور.
ج – الأمن القيمي الخلقي:
يتحقق الأمن القيمي والخلقي في أبهى صوره وأقواها أخذا بالنفوس وتجذرا في الوجدان، باعتبار ما يتميز به الخطاب القرآني من جاذبية وروحانية تأخذ بالنفوس والألباب، وتنقلها برفق إلى التخلق بما يأمر به الباري جل وعلا من محاسن الأخلاق ومكارمها، خلافا للقيم التي تعطى مجردة باردة في سياق مواد أخرى، على غرار ما يقدم مثلا ضمن مادة التربية على المواطنة أو على حقوق الإنسان.
وكذلك الأمر بالنسبة للحديث النبوي الشريف الذي يسوق القيم السامية والأخلاق النبيلة في سياقات روحانية مضمخة بعبق النبوة الزكي، وما يحمله جلال أسوته عليه الصلاة والسلام من روحانية لا يملك معها المخاطب المكلف إلا التسليم والإذعان، إذا سلمت الفطرة وتهيأت الأجواء. فالقيم الصالحة تجد مرتعها الخصيب على مستوى التحقق والتخلق في القرآن والسنة، وفي السيرة التي تمثل النموذج العملي التطبيقي الذي يعزز النزوع نحو التأسي والاتباع لدى المخاطبين، خاصة إذا كانوا في سن اليفاعة كما هو الأمر بالنسبة لتلامذة المرحلة التي نحن بصدد معالجتها.
إن قيما مثل الصدق والإخلاص والعفة والوفاء، والبر بالوالدين وعرفان الجميل، والرحمة وإغاثة الملهوف، واحترام حق الحياة، والحق في التعبير، واحترام كرامة الإنسان، وتقدير التعاون على البر والتقوى ونبذ التعاون على الإثم والعدوان، وتقدير العمل ونبذ الكسل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحب النصيحة ونبذ الخذلان، وغيرها، لتشكل في منظور الإسلام امتدادا وثمرة ولازما للتصور العقدي، ويعد التفريط فيها خدشا لذلك التصور وإخلالا بمقتضياته.
ويظل التحقيق الأمثل للمقاصد المذكورة أعلاه، رهينا بتوفر الشروط التربوية السليمة التي يمثل المدرس محورها وقطب الرحى فيها.
وحري بنا هنا أن نشير إلى ما تتميز به القيم المعروضة في سياق القرآن والحديث من خاصية التنوع والتكامل والشمول، فليس هناك حاجة من حاجات النفس العميقة إلا وجدت في خزان القيم الإسلامية ما يلبي أشواقها ويشبع جوعتها، دون نقص أو تقتير، ولا إسراف أو تنفير، وتلك صبغة الله الحكيم الخبير.
د. عبد المجيد بن مسعود