إن سيرة هذه السيدة العظيمة في آدميتها.. وشخصيتها.. وعبقريتها .. المتمثلة في أعمالها الجليلة، ومآثرها الجميلة؛ اقتضى مني -بلا تردد- تنويها خاصة بها، وتعريفا لازما عنها.
والداعي إلى هذا، هو أني وقعت على كتاب قيّم في إحدى مكتبات باريس، عنوانه “شخصيات ومواقف “للدكتور محمد سليم العوّا. في هذا الكتاب: دراسة هامة حول حياة الدكتورة اللامعة: عائشة عبد الرحمن، الشهيرة ب (بنت الشاطئ) في الأوساط العلمية، استمتعت كثيرا بقرائتها؛ لذلك سطرت “تأملاتي” في مسيرتها العلميّة، ومحطات أعمالها الحياتية، عسى أن ينتفع بمآثرها وآثارها كل المسلمين والمسلمات: الصغار والكبار على السواء.
وللتذكير، فإنه قد سبق لي – ولله الحمد – أن قدّمتها في أكثر من عمل لي: إعلاماً وتأليفاً.
انتقلت عائشة عبد الرحمن إلى رحمة ربها الواسعة عصر يوم الثلاثاء 12 شعبان 1419هـ الموافق لغرة ديسمبر 1998م. لكن الملاحظ، كما يقول الكاتب الفاضل -وقد حضرها-: “حفّ بجثمانها – وهو يوارى التراب – نفر قليل من الرجال؛ وجلس خارج المقبرة عدد أقلّ من النساء.
ثم إن الكاتب – من خلال ما عاينه – يأسف على هذا التشييع الهزيل بحق هذه النابغة المشهورة؛ إلا أنه يعقب قائلا: “… لكن الفضاء كله كان مليئاً بأرواح علويّة طاهرة، تستقبل هذه الوافدة، من دار الفناء إلى دار البقاء…”. وهو يعني بتلك “الأرواح”: الملائكة الكرام.
ظلّت عائشة عبد الرحمن تكتب على صفحات الجرائد والمجلات العربية مدة (اثنين وستين) عاماً، خصوصا في صحفية “الأهرام” القاهرية على وجه التحديد دونما انقطاع، أي: “منذ عام 1936م حتى يوم الخميس السابق لوفاتها”. وهنا يعقب الكاتب الفاضل، إذ يقول: “.. فلعلها أطول مدة واظبت كاتبة على النشر في صحيفة يومية في العالم العربي”. بل وأكثر من ذلك، فقد أشعرنا الكاتب الفاضل – بعد صفحة مما قاله عنها – إذ يضيف قائلاً: “جمع الأهرام حتى بداية التسعينيات مقالاتها في مجلدات ستة، كانت تضعها على رفّ بجوار مكتبها في بيتها”.
لعائشة عبد الرحمن (رحمها الله) قلم مدرار، إذ وصل عطاؤها الثّرّ من الكتب والرسائل: (تحقيقاُ وتأليفاً) ما يفوق الأربعين؛ وهو رقم قياسي في حق من له أكثر من مجال علمي، وثقافي، ووظيفي، فضلا عن مشاركات مستمرّة في الندوات والملتقيات، فهو عبء ينوء بحمله العصبة أولو القوة، وهذا ما كانت عليه أو فيه عائشة عبد الرحمن.
وهنا نجد الكاتب الفاضل يصف لنا إبداعاتها بدقة وأمانة، كما يلي: “كانت بنت الشاطئ لأكثر من نصف قرن، حاملةً لواء الدفاع عن الدين، وعلومه، وأعلام علمائه، واللغة والعلم بها، والقرآن الكريم، وتفسيره وإعجازه، وعلوم السنة، حتى أصبحت لا يستغني عن علمها أحد من أقرانها، فضلا عمن دونها؛ وقدمت للمكتبة الإسلامية أكثر من أربعين كتابا”.
ثم يختم الكاتب الفاضل شهادته فيها بقوله: “فتركت بذلك تراثا هائلا، أفاد منه المسلمون ودارسو الثقافة العربية في الدنيا كلها، وأدّت بما قدمت الرسالة التي وهبت لها نفسها أحسن ما يكون الأداء”.
تخصصت الدكتورة الغالية: عائشة عبد الرحمن (رحمها الله) في التراث الإسلامي: لغة وآدابها وشريعة، فهي في هذه الميادين المتعددة كما يقول الكاتب الفاضل: “.. مدرسة قائمة بذاتها في الدراسات: الإسلامية والعربية، وكانت تعد نفسها، ويعدّها العلماء العاملون، إحدى المرابطات على ثغر من ثغور الإسلام..”.
بل ها هو الكاتب الفاضل، يشهد لها شهادة حقّ وصدق أكثر من تلك الأولى فيكتب عنها في مطلع الدراسة المطوّلة عنها، ما نصه: “أبلت في خدمة الدين، والقرآن والحديث، واللغة العربية، بلاء كتيبة كاملة من العلماء العاملين الصادقين؛ بل بلاء جيل بأسره، نهضت فيه – مع الأفذاذ النوابغ من أساطين العلم – بمهمة حراسة الملة الحنيفية السمحة”.
لكن، مع كل هذا الجَهْد العسير والجُهد المحموم، لم تنل هذه الباسلة حقّها كاملا غير منقوص، ولا حتى من العالم الإسلامي، فقد ظلت الأمل المرجو لها، أو في المكانة والطموح المتطابق مع ما قدمته بعد (نصف قرن) من العطاء المتواصل؛ وبالتالي فإنّ الكاتب الفاضل لم يهمل هذا الجانب المأساوي في مسيرة حياتها، وغزارة جهودها، فهو في هذا يلوم جاحدي فضلها، منكرا عليهم ما أصابها من الغبن، والبؤس، فيقول: “…عانت بين قومها من جحود علمي لم تذكره بحرف لأحد؛ ولكن أحسّ به وتألّم له تلامذتها، وأهل الوفاء من المتابعين لمسيرتها العلميّة والفكريّة”.
ولم تعش بنت الشاطئ هذا الجحود العلمي وحده، وإنما عاشت جحودا إنسانيا أقسى منه وأشدّ، ورأت من نكران الجميل، حيث توقعت العرفان، ومن فقدان الوفاء، حيث انتظرته، ما تخرّ له الجبال الرواسي؛ ولكنها كانت تستصغر الدنيا كلها، فلم تبك على شيء منها قط..”.
ويختم الدكتور محمد سليم العوّا أساه على غمط جيل هذا العصر “حق” هذه النابغة الفذة، ولو بمجرد “تكثيف” الحضور في تشييع جنازتها، فيقول في خاتمة دراسته عنها: “كنت أتوقع أن يكون في جنازتها ثم في سرادق عزائها الألوف من المسلمين والمئات من المفكرين والكتّاب والباحثين، ولكنها كانت – كالعهد بها – مترفعة عن الدنيا حتى في تشييع جنازتها، ولم يقف على قبرها عند دفنها إلا أولئك النفر اليسير، الذين أشرت إليهم”.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.. رحم الله عائشة عبد الرحمن رحمة الأبرار، وأسكنها جنات تجري من تحتها الأنهار. وجزى الله خيرا الدكتور العوّا على تقديره إياها، وتحسيسنا كلنا بشخصيتها، وعطائها، ومكانتها في أمة الإسلام؛ وصدق من قال: “امرأة كألف رجل”.
ذ. صالح العود ـ فرنسا