1 – مخاطبته لأبيه
قال الله تعالى:
﴿{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيئاً، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً. يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً. قالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} (مريم: 41 – 48).
إن إبراهيم في هذه الآيات يخاطب أباه، ولذلك فإن منطق الخطاب للأب يقتضي الاحترام والتقدير، فلقد كان لأبيه هذا مقدراً، وبه بارّا، وله مستغفراً قبل أن يُنهى عن ذلك، ومن ثَمّ فإن مخاطبته له في هذه الآيات يترجم هذا التقدير، حيث إنه لمّا أراد أن ينصحه ويعظه وينقذه مما كان متورطا فيه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، رتب الكلام وتدرج فيه من مقام إلى مقام، مستعملا في ذلك كله المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن، مسترشدا في ذلك بنصيحة ربه، في الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، وخطاب الوالدين بالكلام اللين البعيد عن كل قسوة وفظاظة حتى ولو كانا على غير الإسلام. ولذلك جاء خطابه لأبيه في الآيات السابقة متدرجا في أربع مقامات خطابية هي على التوالي:
مقامات خطابية أربع:
1 – تنبيه أبيه على أن معبوده لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا، ولو أن هذا المعبود كان حيّا سميعا بصيراً قادرا على الثواب والعقاب، إلا أنه بعض الخلق، فإن عابدَه يُستخفّ به ويُستصْغر من عقله، حتى ولو كان هذا المخلوق المعبود متميزا في الجاه والمال على باقي العباد، فكيف والمعبود جماد لا يسمع ولا يبصر. ولذلك فإن إبراهيم بهذا المقام في الخطاب، أراد أن ينبه أباه من تماديه، ويوقظه من غفلته بدعوته إلى استعمال بسيط لعقله في الموضوع وتدبره فيه.
2 – الترفق به في دعوته إلى طريق الحق، فلم يقل له إنك جاهل، أو إنك ضال، مع أنه في دعائه لله تعالى قال: ﴿ واغفر لأبي إنه كان من الضالين (الشعراء: 86).. ولكنه هنا في مقام محاورة، لذلك لم ينعت أباه بالجهل المطلق من خلال خطاب مباشر، كما أنه لم يدَّعِ العلمَ الفائِقَ ولم يَتَسَمَّ به، ولكنه قال له: معي بعض العلم وشيء منه يدلني على سلوك الطريق القويم، فهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بهداية الطريق دونك، أفلا تتبعني حتى أنجيك من الضلال والتيه ؟.
3 – تنبيهه إلى أن عبادته للأصنام هي عبادة للشيطان، ومحاولة تثبيطه عن هذه العبادة بتذكيره أن الشيطان عدو لله عاص له، وأنه في هذا العصيان غير مفلح، وأن اتِّباعه لا يؤدي إلا إلى الخسران.
ومن الطريف أن يلحظ المتأمل للسياق أن إبراهيم لم يذكر في نصيحته لأبيه عداء الشيطان لآدم وذريته، واقتصر على ذكر عدائه لله، لأن المقام دعوة إلى التوحيد، وليس دعوة إلى تجنب أفعال معينة خارج إطار الشرك بالله.
4 – تخويفه بسوء العاقبة، ويلاحظ أنه أسند فعل الخوف إلى نفسه (أخاف) مما يعني حَدَبَهُ على أبيه وإشفاقه عليه. ومن ثم لم يصرح بأن العذاب لاحق به ولكنه قال:﴿إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن﴾ فنكر العذاب ملاطفة لأبيه.
لطيفتان:
ويخدم هذه المقامات الأربعة لطيفتان أسلوبيتان أخريان:
< اللطيفة الأولى: أنه اختار من أسماء الله تعالى وصفاته (الرحمن) وهو الاسم الجامع الشامل لكل أنواع الرحمة. فذِكْر الرحمن مقترنا مع عصيان الشيطان يفيد أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأنه ينتظر من عبده الضال أن يعود إلى رشده، وذِكْرُ الرحمن مقرونا بالعذاب – مع أن العذاب والعقاب لا يناسبان الرحمة – فيه إشارة إلى أن إبراهيم بقدر ما كان يريد تقريب أبيه من عبادة الله وتحبيب الخالق تعالى إليه بذكر أقرب أسمائه إلى الرحمة الشاملة للعباد (الرحمن)، كان في الوقت ذاته يطمع في رحمة الله ومغفرته لأبيه. ولذلك فإن ذكر اسم الرحمن في هذه الآية بالذات فيه إشارة إلى استغفار إبراهيم لأبيه الوارد ذكره في آية أخرى.
< اللطيفة الثانية: أن إبراهيم صدّر كل نصيحة من هذه النصائح التي تضمنتها المقامات الأربعة السابقة بقوله (يا أبت) وفيها ما فيها من التوسل والاستعطاف، فهي تفيد أنه لا يخاطب شخصا غريبا عنه ولكن يخاطب أقرب الناس رحماً إليه وهو أبوه. وهذا بخلاف ما أجابه به أبوه فإنه قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، فأقبل عليه بفظاظة الكفر وغلظ العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل قوله يا أبت، بقوله يا بني، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله: أراغب أنت لأنه كان أهم عنده، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته. بالإضافة إلى التهديد الذي هدده به حينما قال: لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ، فقابل كل أنواع التلطُّف والترقُّق بفظاظة وغلظة عظيمتين كبيرتين، مع تهديد بالعقاب وأمر بالهجران. لكن مع ذلك يبدو واضحا أن الأب أفحمته حجة إبراهيم ، فلم يرُد عليه بقوله مثلا: ولكن هل إلهك يسمع ويبصر ويغني عنك شيئا، أو وهل أنت تعلم أكثر مني رغم صغرك في السن، بل إنه تجاهل كل ما تقتضيه هذه التساؤلات الحجاجية من رد، واقتصر على الإنكار على إبراهيم الرغبة عن عبادة آلهته، مثله في ذلك من استيقنت نفسه بالآيات والحجج، لكنه استكبر عنها وكَفَر بها ظُلماً وعُلوا.
قال فخر الدين الرازي رحمه الله: “وَاعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَتَّبَ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَتَرْكِ التَّقْلِيدِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي الْعُقُولِ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِالْوَعِيدِ الزَّاجِرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ الْحَسَنَ مَقْرُونًا بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي مقدمة كل كلام يا أَبَتِ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الْحُبِّ وَالرَّغْبَةِ فِي صَوْنِهِ عَنِ الْعِقَابِ وَإِرْشَادِهِ إِلَى الصَّوَابِ، وَخَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمَصَالِحِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ عَلَى مَا قَالَ تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (الإسراء: 23)وَالْإِرْشَادُ إِلَى الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ رِعَايَةُ الْأَدَبِ وَالرِّفْقِ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْهَادِيَ إِلَى الْحَقِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَفِيقًا لَطِيفًا يُورِدُ الْكَلَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ لِأَنَّ إِيرَادَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ يَصِيرُ كَالسَّبَبِ فِي إِعْرَاضِ الْمُسْتَمِعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ سَعْيًا فِي الْإِغْوَاءِ. وَثَالِثُهَا: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : “أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنَّكَ خَلِيلِي فَحَسِّنْ خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ تَدْخُلْ مَدَاخِلَ الْأَبْرَارِ فَإِنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِي وَأَنْ أُسْكِنَهُ حَظِيرَةَ قُدْسِي وأدنيه من جواري”
ويعزز هذا كله الموقف الأخير لإبراهيم بعد تعنت أبيه وفظاظته وتماديه في الباطل، بقوله: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي . فرغم التهديد والوعيد، والزجر والأمر بالهجر والقطيعة، يخفض إبراهيم لأبيه جناح المودة والسلام، معلنا لأبيه أنه لن يلحقه أي أذى من عنده مهما كان الحال، سَلامٌ عَلَيْكَ ، فما كان ليقابل الفظاظة بمثلها، مع أنه يعلم أنه على الحق وعلى هدى من الله، ولكنه منهج الدعوة إلى الله تعالى، ومنهج التعامل مع الوالدين، حتى ولو كانا كافرين، ليقرر الاعتزال وليس الهجران، آملا أن يكون استغفاره لأبيه – برورا به وإحسانا إليه – سببا في أن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له ما سبق، إذ لم يكن إبراهيم في هذا الوقت قد تلقى نهيا من الله تعالى عن الاستغفار لأبيه.
أ.د. عبد الرحيم الرحموني