عن جابر، قال: “لعن رسول الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه”. وقال: «هم سواء».(صحيح مسلم).
من المتفق عليه بين علماء المسلمين؛ أن الربا حرام، وأن تحريمه إنما جاء لمصلحة العباد العاجلة والآجلة، ومن أجل الوقوف على بعض أوجه هذه المصلحة سأحاول بيان بعض الأبعاد التربوية التي جاء الإسلام لتحقيقها من خلال تأكيده على حرمة الربا كما جاء في الحديث. فما هي إذن الفوائد التربوية التي يجنيها المسلم من خلال امتناعه عن المعاملة الربوية؟ وكيف يمكنه النجاة من إغراءات المال الربوي؟
أولا: تربية المسلم على الوقوف عند حدود الله تعالى
إن المسلم مطالب بأن يقف عند حدود الله، ويعف عن كل المحرمات والشبهات، فقد جاء عن النبي : «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله…» (صحيح البخاري). فالعفة خلق إسلامي يحول دون وقوع المسلم في فتنة المال الحرام؛ لهذا يجب على العبد أن يربي نفسه على التعفف للتغلب على شهواته، وعلى إغراءات المال الربوي؛ فالإنسان بطبعه ميال لجمع المال، قال تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف: 46). فغريزة حب التملك لدى الإنسان تدفعه أحيانا للاعتداء على حدود الله تعالى.
ومن هذا المنطلق؛ لعن الرسول كل من يتعامل بالربا؛ لأن المتشبثين بها اليوم، يبررون أفعالهم بمزاعم واهية؛ فكثيرا ما يتعلل آكل الربا بالظروف المعيشية الصعبة في هذا العصر، وأنه يلجأ إليها لكونه لا يستطيع فعل أي شيء بدونها، كشراء السيارة، والمنزل، وتعلم الأبناء، وتزويجهم وغيرها من الادعاءات الباطلة، التي يزين له الشيطان أمرها، ويقنعه بواقعيتها في الحياة، وينسى المسلم أنه بذلك يبني بيته، ويركب سيارته، ويعلم أبناءه ويزوجهم بالمال الحرام الذي قال فيه الرسول : «إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به» (سنن الترمذي).
إن عدم تعفف المسلم عن الربا اليوم؛ ناتج عن تدخله في أمور الله تعالى التي تكفل بها بنفسه وهي تقسيم الأرزاق بين عباده، فالمسلم مهمته العمل والسعي المباح، فهو غير مسؤول عن الرزق؛ لأن ذلك من أمر الله ، قال تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (الذاريات: 58). وروي أنه قال: “إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله” (صحيح ابن حبان). فلماذا يخشى المسلم الفقر؟ ألا يكفيه أن يعف عن الحرام ويتوكل على الله سبحانه، ويعمل في الحلال دون أن يتكفل هو بضمان المستقبل كما يزعم؟ إن الناس من خوف الفقر في فقر، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الادعاءات الباطلة التي يتشبث بها آكل الربا فقال : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله (البقرة: 275). تأمل قوله تعالى: وأمره إلى الله أي أمر التاركين للربا الواقفين عند حدوده في تقدير رزقهم، وتوفير مسكنهم، وتحقيق مستقبلهم موكول لله تعالى؛ لأنهم ساروا على طريقه، فلا خوف عليهم من الفقر أو التشرد الذي يزعمه آكل الربا.
فالرسول عندما لعن آكل الربا وكل من يدع إلى ترويجها داخل المجتمع الإسلامي؛ كان قصده تربية المسلمين على الوقوف عند حدود الشرع، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين (البقرة: 278). فالتعفف عن أكل الربا يتطلب التقوى والإيمان، وكلاهما من مسؤولية المسلم؛ لأنهما حصناه ضد الشيطان الذي يخوفه من الفقر ويشجعه على الحرام. قال تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء (البقرة: 268). فالذي يتعامل بالربا قد دخل في حرب مع خالقه. قال تعالى: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله (البقرة: 279)؛ لأنهم تجاوزوا حدود الله تعالى.
ثانيا: تنمية خلق القناعة عند المسلم
القناعة كنز لا يفنى وهي رضا المسلم بما رزقه الله من الحلال قال : «وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس» (سنن الترمذي). ومن أخطر ما يصيب آكل الربا؛ أن الله ينزع البركة من كسبه، قال تعالى: ويمحق الله الربا (البقرة: 276). أي لا يبارك الله في رزقه، ولهذا نلاحظ في واقعنا أن آكل الربا لا يقنع، وهو دائما يجري وراء جمع المال دون طائل فيحرمه الله تعالى نعمة الشعور بسعادة الغنى؛ لأن البركة نزعت، والقناعة ذهبت. قال : «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» (سنن ابن ماجه). وفوق كل ذلك فهو محاسب يوم القيامة. قال : «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت ما هذا فقال الذي رأيته في النهر آكل الربا» (صحيح البخاري).
فأكل الربا خضوع لشهوات النفس المنحطة، والقناعة سفينة نجاة المسلم من الغرق في أمواجها، وهي من أفضل ما يتسلح به العبد اليوم ضد وباء المعاملات الربوية، الذي اجتاح كل مجالات الحياة بما فيها المجال الديني والعياذ بالله. فكثير من الناس الآن يتقربون إلى الله في عيد الأضحى، أو في مناسبة العقيقة بذبيحة تم شراؤها بقرض ربوي نجس، وهذا أمر خطير ابتلينا به في ديننا؛ لهذا اعتبرها الرسول من السبع الموبقات فقال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا.. » (صحيح البخارى).
إن تصنيف الربا مع هذه الكبائر فيه دلالة قوية على خطورة التعامل بها، ويفهم من هذا التصنيف النبوي أن آكل الربا بالإضافة إلى كونه ملعونا ومطرودا من رحمة الله الغفور الرحيم، فهو بذلك أصبح قريبا من طريق الشيطان، وبسبب غفلته هاته بات مستعدا لارتكاب كل تلك السبع الموبقات، فيمكنه أن يأكل أموال اليتامى، ويمارس السحر، ويشرك بالله؛ لأن المال الربوي قد أعمى بصيرته، وصار إنسانا ذليلا ينفذ أوامر شيطانه. والواقع يشهد بذلك؛ فالذين يتعاملون بالربا وخاصة المؤسسات المالية الكبرى بكل أنواعها، لم يعودوا يقتصرون عليها فقط؛ بل لهم ارتباطات مالية أخرى مع شركات القمار، ومنتجي الخمور، وغيرهم…
ثالثا: تربية المسلم على المبادرة إلى العمل وحسن التخطيط
لما لعن الرسول كل الذين يتعاملون بالربا؛ بما فيهم الشاهد، والكاتب، ويلحق بهم اليوم الإشهار الإعلامي لها بجميع أنواعه، كان قصده، محاربة السلوك الاتكالي والاستغلالي عند المسلم، وتربيته على المبادرة إلى العمل وحسن التخطيط له؛ لأن المؤسسات الربوية اليوم، تجني الأموال الطائلة المحرمة دون أن تبذل جهد الدخول في المغامرات الاستثمارية، فهي تعطى القروض بفائدة تضمن الحصول عليها وعلى رأس مالها دون أن تتعرض لخطر السوق، وهذا يتعارض مع القصد الإسلامي من إباحة التجارة الذي يقوم على مبادرة الدخول إلى السوق بالمال أو السلع، والاطلاع على أحواله والمشاركة فيه، فتستثمر الأموال في الحلال، وينتفع البائع والمشتري وغيرهما، فتكون الأموال دولة بين الأغنياء والفقراء، خاضعة لقاعدة المنافسة الشريفة، والتخطيط التجاري المباح، دون ظلم أو استغلال، مصداقا لقوله : “قيل يا رسول الله أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور»” (مسند احمد).
إن المتعامل بالربا متخبط في أمره، لا يميز الحلال من الحرام، فهو في سعيه وراء هذا المال النجس كالمجنون، لا يدري أي جهة يريد، ولا أي طريق يسلك، قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس (البقرة: 275). ولهذا جعل الرسول أكل الربا من أبشع الفواحش فقال: «إن الربا سبعون بابا أصغرها كالذي ينكح أمه». (شعب الإيمان للبيهقي).
إن آكل الربا “فردا أو مؤسسة”؛ إذا كان آخذا فهو يعيش في الذل والهوان؛ لكونه مثقلا بالديون نتيجة الفوائد الربوية فلا يملك أمر نفسه، ولا يخطط لشؤون حياته، فهو مقيد بتعليمات الدائن الذي صار يتحكم في قراراته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا شأن الكثير من الدول الإسلامية اليوم، حيث صارت تخضع في تدبير شؤونها لتعليمات الجهات المقرضة لها نتيجة تراكم الديون وفوائدها الربوية عليها، فجعلت مستقبل شعوبها رهينة مصالح دول أخرى. وإذا كان المرابي معطيا؛ فيكون قد سلب المدين حريته ومبادرته، ومحاكمنا اليوم تعج بنزاعات المعاملات الربوية التي عجز أصحابها عن سداد الديون وفوائدها، فيكون مصيرهم الإفلاس أو السجن، فيتحول عزيز الأمس إلى ذليل مهان؛ لأنه ترك المبادرة إلى العمل المباح، وانساق وراء المال الحرام.
إن المسلم الذي يأكل الربا يضع حاجزا من الخبائث بينه وبين خالقه، فلا تقبل منه صدقة، ولا يستجاب له دعاء، قال : «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم (المؤمنون: 15). وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم (البقرة: 172)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟» (صحيح مسلم).
ذ. محمد البخاري