ليس من المبالغة القول بأن أوروبا تواجه واحدة من أشد الحقب سوادا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فما هي مظاهر ذلك؟ وما هي أسبابه؟ وهل تستطيع القارة الصغرى تجاوزها في المستقبل المنتظر؟
يمكن القول بأن العامل الاقتصادي هو السبب الأساسي لتصاعد أزمة أوروبا، وكذلك في تراجع حظوظها وتصاعد أزماتها. أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية بدأت مشوارها نحو التطور التكنولوجي والاقتصادي بوتائر متفاوتة. ففيما تراجعت بريطانيا لأسباب عديدة من بينها شيخوخة إمبراطوريتها وتصاعد إنفاقها على الحروب والمستعمرات مع تراجع إمكاناتها الصناعية، سعت ألمانيا لإعادة بناء نفسها بعد الدمار الشامل الذي لحق بها بعد حربين مدمرتين في غضون ثلاثة عقود. وتوازى ذلك الصعود مع توسع النفوذ الأمريكي ليحتل موقع بريطانيا الآفلة. وتوسع النفوذ الغربي في دول العالم الثالث على مدى عقود من الاستعمار الذي شمل دول العالم الثالث شرقا وغربا. هذا النمو الاقتصادي الذي صاحبه استقرار غير مسبوق خصوصا بعد تأسيس الاتحاد الأوروبي في الثمانينات، جعل أوروبا مقصدا لضحايا أنظمة الاستبداد التي هيمنت على دول العالم الثالث بعد حقبة النضال والتحرر الوطني.
عقود من التحالف الأوروبي مع الأنظمة الديكتاتورية ساهمت في توسع دائرة اللجوء السياسي والإنساني حتى بلغت ذروتها في ما تعانيه أوروبا اليوم. فهي الظاهرة الأخطر التي تخشى الدول الأوربية أن يكون لتداعياتها عواقب ذات أبعاد شتى: ثقافية ودينية وسياسية واقتصادية. ويمكن الربط بين هذه الظاهرة وتنبؤات المفكر الأمريكي، فرانسيس فوكوياما الذي اعتبر صعود الديمقراطية الليبرالية «نهاية التاريخ» بدون أن يتنبأ بنهاية أوروبا. برغم ذلك فثمة تناغم في تقييم المسار الأوروبي بين ما طرحه فوكوياما والمفكر الفرنسي برنارد ليفي الذي يرى أن أوروبا تتجه نحو نهايتها. وثمة فرق بين «نهاية التاريخ» التي طرحها المفكر الأول ونهاية أوروبا التي يطرحها ليفي. هذا التمييز يضفي بعدا آخر على الأزمة الحالية: ويفرض على القادة الأوروبيين مسؤوليات جسام لإعادة الأمن النفسي والسياسي للقارة الموحدة التي كان ينتظر لها أن تكون بديلا للظاهرة الأمريكية.
أوروبا تعاني في الوقت الحاضر من عدد من الظواهر المقلقة.
> أولها ما كشفته ظاهرة اللجوء الجماعي غير المسبوق في الذاكرة الأوروبية الحديثة من اضطراب وتشوش ذهني ونفسي وخوف من المستقبل الغامض الذي ينتظر الأجيال القادمة من الأوروبيين. لم تكن أوروبا مستعدة لهذا الطوفان من اللاجئين الذين اضطرتهم ظروف بلدانهم السياسية والأمنية للهروب بأرواحهم وذويهم.
برغم المقترحات المتعددة الأشكال والمصادر حول كيفية التعاطي مع هذه الظاهرة، إلا أنها تتواصل بدون توقف، وتوسع الهوة في الرؤى والمواقف والسياسات بين العواصم الأوروبية. في البداية تعاطت رئيسة وزراء ألمانيا مع الظاهرة بإنسانية متميزة، فرحبت بالمهاجرين بعد ما شاهدته من كوارث مروا بها في أعالي البحار. ويمكن اعتبار غرق الطفل الكردي «إيلان» الذي صورت عدسات المصورين الدوليين جثته الصغيرة الغارقة على أحد السواحل اليونانية. ذلك الموقف الألماني كان متميزا وفريدا، لم تتناغم معه خطابات الزعماء الآخرين من دول الاتحاد الأوروبي. وبعد ستة شهور على تلك الحادثة وفتح البوابات الألمانية لأكثر من مليون لاجئ في العام 2015، تصاعدت الأصوات المنبعثة من الجهات السياسية ذات الخطاب المتطرف لوقف موجة اللجوء. ومورست ضغوط كبيرة على اليونان لمراقبة شواطئها وموانئها لوقف تدفق اللاجئين الذين فروا من بلدانهم المبتلاة بالعنف والتمزق خصوصا سوريا وليبيا وأفغانستان والعراق. ثم توجهت الأنظار لتركيا التي تعتبر بوابة العبور لآلاف اللاجئين من دول الشرق الأوسط خصوصا سوريا. وقد تم التوصل لصيغة بين دول الاتحاد الأوروبي وتركيا تهدف لوقف تدفق سيل اللاجئين على العواصم الأوروبية. ويصعب التكهن بمدى قدرة هذه الصيغة على احتواء الأزمة في المستقبل المنتظر.
الدول الأوروبية تتهم تركيا باستغلال الأزمة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، وتضغط عليها لتغيير سياستها تجاه الأزمة السورية. لكن أوروبا رفضت حتى الآن منح تركيا عضوية الاتحاد، برغم محاولات أردوغان المتكررة.
> البعد الثاني لأزمة أوروبا يتمثل في الأوضاع الاقتصادية المتردية وعدم وجود توازن بين اقتصادات دولها. ففيما تشهد دولها الغنية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا نموا ملحوظا برغم الأزمات الاقتصادية العالمية، تعاني دول أوروبية عديدة من تراجع حظوظها الاقتصادية، خصوصا اليونان وإسبانيا. وبلغ التوتر ذروته بتصاعد احتمالات خروج اليونان من الاتحاد الأوربي، الأمر الذي كان سيمثل بداية الشتات الأوروبي.
فألمانيا وفرنسا أكثر المتحمسين للحفاظ على الاتحاد، فيما تسعى بريطانيا لحسم موقفها إزاء استمرار عضويتها أو الانسحاب من هذا الاتحاد. بريطانيا دولة عملاقة ومؤثرة، وسيكون خروجها من الاتحاد، وهو أمر مستبعد، ضربة موجعة لدعاة الوحدة الأوروبية، وقد تشجع دولا أخرى على الانسحاب. ومن بين الأسباب البريطانية للخروج بعد اقتصادي مرتبط بالضرائب التي تدفعها للاتحاد. وقد سعت الحكومات المتعاقبة للضغط على بروكسل (مركز المفوضية الأوروبية والاتحاد الأوروبي) لخفض معدلات الضرائب التي تدفعها بريطانيا. هذا برغم استفادة البريطانيين من عدم دفع الضرائب على التبادل التجاري بين دول الاتحاد.
ولكن بريطانيا مدفوعة أيضا برغبتها في وقف الدعم الاجتماعي الذي تدفعه للوافدين الأوروبيين. وقد سعى ديفيد كاميرون لتخفيف الأعباء المالية البريطانية ومنها دعم المهاجرين الأوروبيين، ولكنه لم يحصل على ما يرضي الفريق المطالب بالانسحاب من أوروبا. ولذلك طرح مسألة البقاء أو الانسحاب من أوروبا للاستفتاء العام في شهر حزيران/يونيو المقبل، وأصبح مستقبله السياسي مرتبطا بنتيجة ذلك الاستفتاء.
> البعد الثالث للأزمة الأوروبية لها أبعاد: سياسية تتصل بظاهرة اللجوء التي تساهم فيها الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد، وأخلاقية إيديولوجية ذات صلة بحقوق الإنسان. فلأسباب عديدة تتجه بريطانيا للضغط على الحريات العامة وتسعى للانفصال عن المنظومة الأوربية لحقوق الإنسان وحاكمية المحكمة الأوروبية التي تسعى لحماية هذه الحقوق. كما أنها تسعى لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط وقد بدأت ببناء قواعد عسكرية أولاها في البحرين، وتخشى من تعرضها لانتقادات أكبر بسبب دعمها السياسي والأمني للعديد من حلفائها المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان. ويسعى الاتحاد الأوروبي نحو سياسات أكثر ليبرالية وأخلاقية في التعاطي مع دول الشرق الأوسط، خصوصا دول مجلس التعاون الخليجي.
> ويمثل القلق الأمني بعدا رابعا للأزمة الأوروبية. فالصراع الذي يدور في أوكرانيا جمد العلاقات بين شرق أوروبا وغربها، وهذا الجمود ينطوي على مخاطر أمنية غير قليلة. وفي الأسبوع الماضي حذر وزير الخارجية الروسي السابق، إيغور إيفانوف، من تداعيات التوتر: «إن مخاطر المواجهة بالسلاح النووي في أوروبا أكبر مما كانت عليه في الثمانينات» (في عهد الاتحاد السوفياتي). ومع نهاية كانون الثاني/يناير الماضي ما تزال الولايات المتحدة وروسيا يمتلك كل منهما 7000 رأس نووية، وهو ما يمثل 90 بالمائة من المخزون الدولي من هذه الأسلحة.
يقول إيفانوف: «لدينا كميات أقل من الرؤوس النووية ولكن احتمالات استخدامها تصاعد كثيرا». ويتهم إيفانوف الولايات المتحدة بالمساهمة في تصاعد خطر المواجهة النووية بسبب الدرع الصاروخي الذي تشيده أمريكا في أوروبا، والذي سيكون جاهزا للعمل في بولندا بعد عامين.
هل يمكن اعتبار ما تقدم مؤشرا لنهاية أوروبا؟ هذه وجهة نظر بعض المفكرين مثل برنارد ليفي.
والحديث هنا يتصل بأوروبا الموحدة التي قلصت احتمالات الصراع البيني على غرار ما حصل في الحربين العالميتين. الأمر المؤكد أن أوروبا تمر بأشد حقبة في حياتها توترا واضطرابا، وتؤكد الأبعاد المذكورة مصاديق لهذه الحقيقة. ولا شك أن توجيه الإستراتيجية الأمريكية بعيدا عن المنطقة لمواجهة تصاعد النفوذ الصيني في شرق آسيا والمحيط الهادئ قد ساهم في إضعاف السجال البيني لدى دول الناتو، ودفع روسيا لتوسيع نفوذها في شرق أوروبا والشرق الأوسط. ولذلك فمن المتوقع تواصل الاضطراب في الأوساط الأوروبية نتيجة النزوع نحو التفكك، ورجحان تراجع دور أوروبا لمعادلة النفوذ الأمريكي من جهة ومنع المواجهة بين أمريكا وروسيا من جهة أخرى. وقد يكون الهدوء النسبي الذي يهمين على العلاقات اليوم شبيها بالهدوء الذي يسبق العاصفة. المشكلة أن العاصفة هذه المرة ستكون مدمرة حقا، ولا ينفك عن أجندتها تكرر الصراعات كما جرى في الحربين العالميتين، عندما كانت أوروبا مسرح العمليات فيهما.
د. سعيد الشهابي ٭
———-
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن.