الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، …
أيها المسلمون والمسلمات:
جاء في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: «أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَت .
هذا الحديث الشريف يبين خطر هذا الذنب العظيم الذي بادر النبي أصحابه بالكلام عليه قبل أن يسألوه فقال: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟»، وعندما أراد أن يذكر قول الزور جلس بعد أن كان متكئاً، وهذا دليل آخر على عظمة هذا الأمر وخطره، ثم أخذ يكرر: «أَلا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» حتى قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليته سكت!.
وقد قرن الله سبحانه وتعالى بين عبادة الأصنام وبين قول الزور فقال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور (الحج: 30)، ونزَّه المؤمنين عن قول الزور، وجعل من أبرز صفاتهم الابتعاد عن قول الزور وشهادة الزور، فقال: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (الفرقان: 72).أ
وما ذلك إلا لأنه من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائر، وأخطر الظواهر؛ لما يترتب عليه من الكذب والفجور والظلم وهدر الحقوق ونشر البغضاء والضغينة؛ فبسببه انتزعت أملاك بغير حق، وأُكِلَت أموال ظلماً، وانتُهِبَت حقوقٌ بالباطل.
كم بريء بسبب شهادة الزور أصبح متهماً!
وكم من متهم بسبب شهادة الزور أصبح بريئاً!
وكم من قضايا باطلة ودعاوى كاذبة أُلْبِسَتْ لباس الزور فأصبحت قضايا مصدقة!
وكم من قضايا حقيقية أصبحت بشهادة الزور باطلة مكذبة!
وكم من شخص ظلم في حقه أو أودع السجن وهو بريء بسبب قول الزور وشهادة الزور!.
عباد الله:
إن شهادة الزور تُسَبِّبُ لشاهدها دخول النار؛ لأنها تطمس العدل والإنصاف، وتُعين الظالم على ظلمه، وتُضَيِّعُ حقوق الناس، وتظلم بعضهم على حساب بعض، وتعطي الحق لغير مُسْتَحِقِّه، وتزرع الأحقاد في القلوب، وتعصف بالمجتمع، وتقوِّض أركانه، وتزعزع أمنه واستقراره؛ يقول النبي : «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار؛ فليأخذها أو يذرها».
إن هذا الذنب الخطير، والشر المستطير، موجود ومنتشر -للأسف الشديد!- في أوساط مجتمعنا، فكم سمعنا عن أناس يجلسون في مقاهٍ معلومة أو على أبواب المحاكم يبيعون ذممهم، ويعرضون شهادتهم، ولا يستحون أن يقولوا “تريد شهادة” أو “تريد أحداً يشهد معك”! فيشهد معه في أمر لم يره ولم يعلم به مقابل ثمن بخس يحصل عليه، أو عوض دنيوي يأكله، أو لأجل صداقة أو قرابة أو عداوة للطرف الثاني، أو لأجل مجاملة أو محاباة أو خوف منه، وقد تكون سلفاً فيشهد له في قضيته على أن يشهد له في قضيته!.
يشهد أحدهم شهادة مزورة أو يجمع أقوالاً ملفقة أو يشي بوشايات كاذبة لا يخافون الله فيها ولا يخشون عقابه عليها، وصدق النبي ، إذ يقول: «إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتمنون، ويشهدون ولا ُيستشهدون، وينذرون ولا يوفون» (رواه البخاري ومسلم).
لقد نسي هؤلاء لقاء ربهم، وظلمة قبورهم، ونسُوا أن الحقائق قد تقلب في الدنيا؛ لكنها عند الله السميع العليم البصير ثابتة، وفي الآخرة لن يحق فيها إلا الحق، ولن يصح منها إلا الصحيح، فالحق في ميزان رب العالمين وأحكم الحاكمين سبحانه وتعالى لا تنفع في رده شهادة المزورين، ولا فصاحة المحامين، ولا تزوير المدلسين والمزورين، يقول الله جل جلاله: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنَ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (غافر: 16 – 20).
ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 135). نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم…
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا لهذا…
عباد الله:
يظن كثير من الناس أن شهادة الزور مقتصرة على التي في المحاكم وعند بعض القضاة، وهذا إنما هو نوع من أنواع الزور، والحقيقة أن الشاهد زورا والمشهود له زورا، مجرمان غاية الإجرام، في أي مكان كان، والشاهد أشد إجراماً؛ لأنه يبيع دينه بدنيا غيره، وأشد إجراماً منهما القاضي أو الحاكم إذا كان يعلم أن شهادة الشاهد كاذبة كما هو حال بعض الشهود الذين يرابطون عند أبواب المحاكم فيترددون على القاضي مراراً وتكراراً في قضايا مختلفة ولأناس مختلفين مقابل ثمن بخس نتيجته سحت حرام.
ومن أنواع الزور تلك التوقيعات التي يُوقعها بعض المسؤولين في بعض الإدارات بأن فلاناً تم انتدابه لمدة كذا وكذا، أو أنه مصاب بمرض كذا وكذا، أو أنه موجود ومداوم عندهم في الإدارة، والأمر ليس كذلك، فهذا زور وتزوير من الطرفين، وأكل للمال بالباطل.
ومن الزور تلك التقارير المزورة التي يرفعها بعض المسؤولين والمدراء والمشرفون في أمور يعلمون علم اليقين أنها غير صحيحة كالتقارير التي تعطى لبعض الأشخاص للحصول على إجازة من العمل، أو الحصول على مساعدة من جهة معينة، أو التقارير التي يرفعها بعض الأطباء بمرضِ مَن ليس بمريض أصلاً، أو إعطاء الطالب تقريراً يمنعُه من الذهاب إلى المدرسة أو دخول الامتحان، أو غير ذلك من الزور والبهتان.
ومن الزور ما يفعله بعض أصحاب المحلات التجارية من كتابة لفواتير مزيفة وغير حقيقية، أو إعطاء الزبون فاتورة بيضاء ليكتب فيها ما يريد، أو كتابة فواتير بمبلغ غير المبلغ الفعلي الذي استلمه صاحب المحل، كل ذلك من الزور والإعانة على الإثم والعدوان، والله سبحانه وتعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان (المائدة: 2).
ومن شهادة الزور ما يفعله بعض الدلالين والمروجين للسلع حيث يصفونها بأوصاف يعلمون أنها كذب وغير موجودة في السلعة، أو ينفون عنها عيوباً هي موجودة فيها، أو يشهدون أن فلاناً قد وضع على البضاعة سعراً أكثر من الذي وضعه من أجل أن يخدعوا المشتري حتى يزيد في الثمن، وهذه خيانة، وضياع للأمانة، ومَحق لبركة البيع والشراء.
ومن الزور ما يفعله بعض المهندسين أو المشرفين على المشاريع حيث يشهد بعضهم أنها حسب الصفات والشروط المتفق عليها قانونا، وهي في الحقيقة ليست كذلك، وهو يعلم بذلك! وهذا زور يترتب عليه نتائج خطيرة على البلاد والعباد.
ومن أعظم الزور تلك الشهادات المزورة التي تعطى لمن ليس أهلاً لها، كالشهادات التي تعطى لمن نجح بالغش، أو لمن لم يدرس أصلاً، وكذلك شهادات الخبرة في مجال معين لمن ليس كذلك.
وعلى كل حال -أيها المسلمون- فالزور موجود ومنتشر على كافة الأصعدة والمستويات، وما ذكر من النماذج والأمثلة كاف لمن ظن أن الزور مقتصر على شهادة الزور المعروفة في المرافق التي يتحاكم الناس إليها.
عباد الله:
اعلموا أنه إذا كان كل مَن أظهر الشهادة زوراً قد اقترف إثماً عظيماً، فكذلك من كتم الشهادة وهو يعلمها، وشهد بغير الحقيقة التي يعرفها فقد اقترف أيضاً كبيرة من الكبائر، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (البقرة: 283)، ويقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة: 140).
ويقول النبي في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها».
اللهم يا رحيم ارحمنا برحمتك، و يا ستار استرنا بسترك الجميل، اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا. وتجاوز عن زلاتنا… ووفق اللهم عاهل البلاد محمدا السادس لما تحبه وترضاه…
د. عبد اللطيف احميد