عن أبي هريرة أن رسول الله قال:
«بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا» (صحيح مسلم).
إن للفتن أشكالا معظمها غير معروف في زمننا هذا، والكثير من المسلمين لم يعودوا قادرين على تمييزها لكثرتها وسرعة انتشارها، وقد بين الرسول في هذا الحديث حقيقة الفتن، وكيفية تجنبها، وبعض آثارها السلبية على الفرد والمجتمع.
أولا: الفتن من خلال التصور النبوي:
خاطب الرسول أمته في هذا الحديث بأسلوب بليغ مؤثر، واستعمل التشبيه بشيء محسوس معروف عند كل مكلف؛ لتكون الصورة أوضح للقارئ والسامع، فيستوعب المعنى الحقيقي للفتنة كي يتجنبها، لذلك عبر عنها بقوله : «فتنا كقطع الليل المظلم» إذ الجميع يدرك أن الليل المظلم موحش، ومن خصائصه انعدام الرؤيا كليا، فيغلب على الإنسان التخبط دون أن تكون له رؤية واضحة عن هدفه، كما يصاب بالخوف من كل شيء يسمعه أو يشعر به، فيكون المسلم في هذا الواقع المظلم غير آمن ولا مطمئن، فهو في رعب مستمر نتيجة الفتن المظلمة حسب تصوير الرسول لحقيقتها، وقد عضد النبي هذا المعنى بحديث آخر فقال: «ستكون فتنة صَمَّاء، بكْماء، عمياء، …» (سنن أبي داود). لأن الواقع فيها من شدتها لا يميز الحق من الباطل، ولا يستمع لناصح، ولا يترك منكرا.
والمتأمل لحديث الرسول ، يدرك حقيقة هذا التصوير النبوي في واقعنا الذي كثرت فيه الفتن، وألبست في كثير من صورها الباطلة ثوب الحقيقة المنشودة، وما ذلك إلا لكونها فتنة تفتن الناس في دينهم ودنياهم دون أن يعرفوا أنهم وقعوا فيها، فهم يمارسونها في حياتهم اليومية بمسميات مختلفة ظاهرها الحق وباطنها الباطل، فوقعوا في العري باسم الحرية، وفي الاختلاط الماجن في الشواطئ والحفلات باسم الحق الشخصي، وفي الزنا المعلن باسم الأنشطة السياحية والفنية، وفي الرشوة والربا باسم الظروف الاقتصادية، وفي الترخيص لأوكار القمار والخمور باسم احترام المواثيق الدولية وغير ذلك من المسميات الفاتنة.
ثانيا: بعض التوجيهات النبوية للوقاية من الفتن
1 – المبادرة إلى العمل الصالح
في الحديث إفصاح عن طريق النجاة من الفتن؛ فالرسول لما بيَّن معنى الفتنة، وصورها بشكل واضح للمسلم حتى يفهمها، أرشده إلى كيفية تجنبها فقال : «بادروا بالأعمال» أي سارعوا إلى الأعمال الصالحة وواظبوا عليها قبل أن تداهمكم الفتن، وتحيط بكم من كل جانب فلا تجدون وقتا ولا مكانا لعمل الخير؛ لأنه لن يكون معروفا إلا لمن واظب عليه قبل الوقوع في الفتن، ويؤيد هذا التوجيه النبوي قوله : «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء» (سنن الترمذي).
فالمقصود بالعمل الصالح في الحديث التزام شرع الله جل وعلا في السر والعلانية، ومن أهم ما يجب التشبث به في زمن الفتن ما يلي:
الأمر الأول: تقوى الله تعالى؛ لأنها تنجي المسلم من الشر، وقد سأل عبدا لله بن عمرو الرسول عن طريق النجاة من الفتن فقال له: «اتَّق الله ، وخذ ما تعرف، ودَعْ ما تنكر، وعليك بخاصَّتك، وإياك وعوامَّهم» (مسند أحمد). فتقوى الله هنا تشمل ما أشار إليه النبي من:
- عدم التفريط في الحق المتيقن الذي لا تحوم حوله أي شبهة، وعلى رأس ذلك التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه قولا وعملا، لهذا ورد في الحديث: «وخذ ما تعرف».
- وجوب اجتناب الشبهات كلها لأنها بداية المحرمات؛ إذ فيها يلتبس الحق بالباطل فيصعب التمييز بينهما، وقد نبه النبي إلى ذلك فقال: «ودع ما تنكر».
- وجوب التزام الصمت وعدم المشاركة في الفتن، لذلك قال : «عليك بخاصتك».
- عدم اتباع عوام الناس فيما يدعون إليه؛ لأنهم لا يتثبتون في نقل الأخبار، ويغلب عليهم التسرع في وقت يجب فيه التريث، كما يسهل التغرير بهم والتأثير فيهم من أصحاب المصالح الخاصة، فيتخذونهم بوقا يدعون بواسطتهم إلى الفتن؛ لأن العوام في غالب الأحيان لا يخضعون الأمور لميزان الشرع، ويحتكمون إلى العاطفة الدينية، أو القومية، أو القبلية، فيُسْتَغَلون بهذه المشاعر المؤثرة في نفوسهم ويتحولون إلى دعاة للمنكر، وخاصة في زمن التكنولوجيا المتطورة، ووسائل الإعلام المأجورة والمضللة، حيث تصور للعوام القاتل مقتولا، والظالم مظلوما، والشيطان ملكا، والبريء الفار بدينه وعرضه وماله وحشا إرهابيا.
وفي خضم هذه الفتن المظلمة يجب على المسلم العاقل أن يتقي الله تعالى حق تقاته، ويحتاط مما يروجه العامة من الشائعات، وسيجعل الله له مخرجا، قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا (الطلاق: 2). فإذا جعل الله له مخرجا فلْيَسْع لنصح المسلمين وإنقاذهم من الفتن حتى لا يعم البلاء ويهلك الجميع، الصالح والفاسد، مصداقا لقوله عند ما سئل: “أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث»” (موطأ الإمام مالك). لأن الصالح يجب أن يتحول إلى مصلح كي يقاوم الفتنة وإلا شمله الهلاك، وهذا كله مشروط بكونه عالما بالمعروف ومميزا له عن المنكر، وإلا عليه بخاصة نفسه.
الأمر الثاني: الحفاظ على الشعائر الدينية وأهمها أركان الإسلام؛ لأن الفتن أنواع وأشكال، وتعرض على المسلم بشكل يومي في مختلف مجالات الحياة، وليس له من حصن إلا مقاومتها بالمحافظة على العبادات المفروضة كما شرعها الله تعالى ورسوله ، فقد استيقظ رسول الله ليلة فزعاً، يقول: «سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه لكي يصلين- رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» (صحيح البخاري).
فالصلاة وقاية من الفتن، والمواظبة عليها في الجماعة تخفف من حدتها؛ إذ بذلك يجتمع المسلمون في المسجد في صف واحد، فيتذكرون أنهم أمة واحدة ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، فيتلاحمون في دائرة الإسلام التي تذكرهم بها العبادات المفروضة، كما أن الصوم يجمعهم في زمان واحد وإن اختلفت أماكنهم، والحج يوحدهم في مكان واحد وإن اختلفت أجناسهم وبلدانهم، فالحرص على القيام بهذه الشعائر زمن الفتن، من شأنه أن يجمع علماء الأمة، وعقلاءها، وولاة أمورها على كلمة واحدة، فيدافعون عن دينهم، وعرضهم، وأموالهم، وقد أخبر النبي أن المحافظة على العبادة أيام الفتن صعب فقال: «العبادة في الهرْج كهجرة إلي» (صحيح مسلم). قال ابن العربي: “ووجهُ تمثيله بالهجرة أنَّ الزمان الأوَّل كان النَّاس يفِرُّون فيه من دار الكفر وأهلِه إلى دار الإيمان وأهلِه، فإذا وقعت الفتن تعيَّن على المرْءِ أن يفرَّ بدينه من الفتنةِ إلى العبادة، ويهْجُرَ أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحدُ أقسامِ الهجرة” (عارضة الأحوذي ج9،ص:53).
2 – البعد عن مواطن الفتن:
يفهم من قوله «بادروا بالأعمال» وجوب اعتزال الفتن وتجنبها بعد معرفتها، لقوله : «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ، أو مَعَاذاً، فليعذ به» (صحيح البخاري).
والملجأ الوحيد هو البعد عن مواطن الفتن، وإلا وجد المسلم نفسه يسير في طريق المفتونين لكثرتهم، وحالنا ناطق بذلك؛ فالكثير من الناس يخالف شرع الله ، ويتعلل بأن كل الناس يفعلون ذلك، وأصبحت الأحكام الشرعية ترد بمنطق الأغلبية، وصارت الأغلبية وهي وجه من أوجه الفتة في هذا الزمن، طريقا للتمييز بين الحق والباطل في مختلف المجالات؛ فالسياسي يمارس المنكر بدعوى أن الأغلبية صوتت عليه، والإباحي يجهر بالفاحشة في المهرجانات بدعوى أن الأغلبية تحضر له وتوافقه، وأصحاب البدع يعلنون المنكر في الأضرحة بدعوى أن الأغلبية يشاركونهم، ووليمة الزفاف تمول بأموال ربوية، ويعلن فيها الاختلاط الماجن، والعري الفاحش، بدعوى أن أكثر الناس يفعلون ذلك، فهي فتنة يقودها السفهاء بحجة الأغلبية، ويكوى بنارها عامة المسلمين.
فالمسلم أحيانا مطالب بالتزام بيته حفاظا على دينه، وإن ابتلي بمن يفتنه فيه فعليه بالاعتزال وهجر بقع الفتن، أخذا بقول الرسول : «يُوشِكُ أن يكُونَ خير مال المسلمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الْجبالِ ومواقعَ الْقَطْرِ يفر بِدينه من الفتن» (صحيح البخاري).
فالهجر إلى قمم الجبال، وبطون الأودية، مشروع إن اقتضى الأمر ذلك، وتيقن المسلم أنه لن يؤثر بإصلاحه في المفسدين، الذين عم بلاؤهم واستفحل شرهم.
فمن علامة فلاح المسلم وسعادته، أن يجنبه الله جل وعلا الفتن فلا يشارك فيها بأي شكل من الأشكال؛ لأنه في الغالب ما يتم التدليس على بعض العلماء والدعاة، من عامة الناس ليظفروا منهم بفتوى، أو رأي، ليستندوا إليه في تأجيج نار الفتن، أو ممارسة منكر محرم كالربا للضرورة، والرشوة للمصلحة كما يتوهمون. لهذا قال : «إِنَّ السعيد لمن جنب الفِتن» (سنن أبي داود).
فاللسان زمن الفتنة أخطر من السيف، وتشتد الخطورة إذا كان المتكلم من خاصة الناس الذي يوثق بقوله لعلمه، وصلاحه. فكلامه وإن كان صوابا فإن أصحاب الأهواء سيحرفونه بما يخدم مصالحهم ويؤجج الفتنة بين المسلمين، خاصة وأن وسائل التكنولوجيا أصبحت تسمح لذوي النيات السيئة بتحريف الكلام صوتا وصورة بطريقة محترفة لا يعرفها إلا المهرة في مجال التكنولوجيا، وقد نبه النبي إلى ضرورة حفظ اللسان زمن الفتن بقوله : «تكون فتنة … اللسان فيها أشدُّ من وقْعِ السيف» (مسند أحمد). فلا يجوز للمسلم الذي يقتدى به أن يخوض فيها، حتى يتبين له وجه الحق وطريق إظهاره.
يتبع
ذ. محمد البخاري