لن يكون المرء مبالغاً إن خرج من قراءة أصول البحث الموسوم بـ (السيرة النبوية الصحيحة) بالاستنتاج التالي:
إنها واحدة من أكثر الدراسات المعاصرة للسيرة رصانة، وموضوعية، والتزاماً بمطالب منهج البحث العلمي الجاد في التاريخ، وإن عنوانها الذي يدل عليها لينطبق بشكل مقنع تماماً على منهجها ومعطياتها، فيحقق بذلك مقاربة لواقع السيرة، مستمدة من أكثر الروايات والوثائق والمدونات التاريخية أمانة وصدقاً.
إن مكتبة السيرة لفي أمس الحاجة إلى أعمال كهذه، بعد أن عصفت بها رياح التشريق والتغريب، وبعد أن تقاذفتها تهاويل المبالغة حيناً، وجفاء الرؤية المادية للتاريخ حيناً آخر، والتعامل غير النقدي أو المنضبط حيناً ثالثاً…
صحيح أن مؤلفات ودراسات ليست بالقليلة شهدها حقل السيرة، منذ منتصف القرن الأخير، تميزت بقدر كبير من الموضوعية، والاعتدال، واعتماد صيغ النقد والتمحيص والموازنة إزاء المرويات التاريخية… لكننا هنا تجاه عمل متميز بصرامة أشد وضوحاً في التعامل مع الموارد التي تشكل واقعة السيرة، وقدرة جيّدة على توظيف منهج المحدّثين في الكتابة التاريخية، بحيث إن المرء يطمح في أن يمضي مؤلف هذا الكتاب لكي يتعامل مع المراحل التالية للتاريخ الإسلامي، وبخاصة العصر الراشدي، بالمنهج نفسه، ويقيناً فان النتائج التي ستتمخض عنها دراسة كهذه لن تقل أهمية عن مؤلفه الفنّي الذي بين أيدينا.
ويزيد الكتاب أهمية أن عناية مؤلفه الفائقة بمنهج المحدّثين، لم تصرفه عن الإفادة من تقنيات مناهج البحث الغربي التي بلغت شأواً كبيراً في العقود الأخيرة، والتي تمثل رصيداً جيداً يمكن أن يخدم الدراسات التاريخية في حقل السيرة أو التاريخ. وإن المؤلف، وهو يجمع مادته، ويمحّصها، ويركبها، انما يحقق قدراً ملحوظاً من التوازن بين مطالب المنهجين آنفي الذكر، فكأنه يعرف كيف يقطف ثمارهما لكي يخرج على الدارسين والقرّاء بكتابه هذا الذي يقارب أكثر من غيره، واقعة السيرة، والذي ينطبق، مرة أخرى، مع العنوان الذي اختاره مؤلفه.
ولاريب أن هذه النتيجة انما تجيئ أمراً طبيعياً للخبرة الواسعة التي امتلك المؤلف ناصيتها من خلال تعامله مع السيرة، كما يذكر في مقدمته، على مدى عشرين عاماً تدريساً وتأليفاً وإشرافاً على رسائل الدراسات العليا التي بلغت أكثر من ستة آلاف صفحة استغرق تنفيذها أكثر من عشر سنوات.
ويزيد الكتاب أهمية أن مؤلفه اعتمد في مادته الخصبة على حشد كبير من المصادر والمراجع، يمكن أن يلحظها المرء في تهميشاته وقوائمه، جاعلاً من مصادر الحديث والسنة الشريفة المحور الأساس الذي ترتكز عليه محاولته هذه.
وعلى ذلك فان الكتاب ليعدّ، بالنسبة للطالب الجامعي بصفة خاصّة، ملائماً تماماً، سواء من حيث دقة المادة العلمية (بالاعتماد على أكثر الموارد صحة ووثوقاً)، أو من حيث القدرة على التوصيل (بالاستفادة من مناهج البحث الحديثة)، وبالتنظيم المحكم للمادة التاريخية.
أما اللغة المعتمدة فتدل على تمكن المؤلف من التعامل السليم مع مطالبها على المستويات كافة… وبطبيعة الحال فان المرء، وهو يلمس هذا القدر الكبير من الإخلاص لواقعة السيرة، لن يجد أية ثغرة يمكن أن تدين المؤلف بما لا يتفق ومفردات العقيدة الإسلامية.
ولقد سبق للمؤلف، كما يشير في مقدمة كتابه، أن نشر المقدمة نفسها والبابين الأوّل والثاني من (السيرة الصحيحة) في كتب مستقلة أتيح لي الاطلاع عليها… لكن هذه الطبعة المأمولة تتميّز، فضلاً عن إضافة فصول أخرى، بأنها أخضعت لمزيد من التعديل والتنقيح.
إن نشر الكتاب لا يقل ضرورة منهجية لجامعة قطر التي عرفت كيف تختار ما تقدمه لطلبتها، فحسب، وانما لكافة الدارسين والباحثين والقراء، من المعنيين بالسيرة في العالم كله.
ولسوف يكون لجامعة قطر فضل السبق في إنجاز نشر هذا العمل ووضعه بين يدي المهتمين…
ومن الله وحده التوفيق
أ.د. عماد الدين خليل