المحور الثاني: أم سلمة والعهد المدني
أ – أم سلمة المرأة الصابرة المحتسبة.
وفي غزوة أحد أُصيب زوجها بجرح عميق، وبعد شهور تُوفي متأثراً بجرحه، وهذا ابتلاء آخر يصيب أم سلمة، بعد رحيل زوجها من الدنيا تاركاً وراءه أربعة من الأولاد هم: برة وسلمة، وعمر، ودرة. فكانت نعم المرأة الصابرة الممتثلة لسنة رسول الله فلم تصرخ ولم تتضجر بل قامت بما أمرها به فتركت لنا أروع الصور في صبر المرأة المسلمة. وفي صحيح الحديث عن أم سلمة زوج النبي عن أبي سلمة أنه حدثها: أنه سمع رسول الله يقول ما من عبد يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمره الله به من قول إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم آجرني في مصيبتي هذه، وعوضني خيراً منها إلا آجره في مصيبته. وكان قمنا أن يعوضه الله خيراً منها. فلما هلك أبو سلمة ذكرت الذي حدثني عن رسول الله فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وعوضني خيراً منها. ثم قلت إني أعاض خيراً من أبي سلمة. قالت فقد عاضني خيراً من أبي سلمة وأنا أرجو أن يكون الله قد أجرني في مصيبتي”صحيح مسلم .
وتلبث كبار الصحابة حتى انتهت عدة أم سلمة فتقدم إليها منهم صاحب رسول الله أبو بكرالصديق فخطبها، إلا أنها لم تقبل، ثم تلاه عمر بن الخطاب فلم يكن حظه منها غير حظ صاحبه.
ب – أم سلمة في بيت النبوة:
أخبرنا أحمد بن إسحاق الحضرمي حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم الأحول عن زياد بن أبي مريم قال: قالت أم سلمة لأبي سلمة بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة وهي من أهل الجنة، ثم لم تزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة. وكذلك إذا ماتت امرأة وبقي الرجل بعدها فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدي ولا أتزوج بعدك، قال أتطيعيني؟ قلت ما استأمرتك إلا وأنا أريد أن أطيعك. قال فإذا مت فتزوجي؟ ثم قال اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لا يحزنها ولا يؤذيها. “طبقات ابن سعد 8/88 .
وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هاشم: أن رسول الله خطب أم سلمة فقال لها فيما يقول، فما يمنعك يا أم سلمة؟ قالت في خصال ثلاث، أما أنا فكبيرة وأنا مطفل وأنا غيور. فقال أما ما ذكرت من الغيرة فندعو الله حتى يذهبه عنك، وأما ما ذكرت من الكبر فأنا أكبر منك، والطفل إلى الله وإلى رسوله. فنكحته. فكان يختلف إليها ولا يسمها لأنها ترضع حتى جاء عمار بن ياسر يوماً فقال هات هذه الجارية التي شغلت أهل رسول الله . فذهب بها فاسترضعها بقباء. فدخل رسول الله فسأل عن الصبية أين زناب. قالت امرأة مع أم سلمة قاعدة. فأخبرته أن عماراً ذهب بها فاسترضعها. قال فإنا قاسمون غداً. فجاء الغد وكان عند أهله. فلما أراد أن يخرج قال يا أم سلمة إن بك على أهلك كرامة وإني إن سبعت لك وإني لم أسبع لامرأة لي قبلك، وإن سبعت لك سبعت لهم، طبقات ابن سعد 8/88.
فتزوّجها النبي في شوال سنة أربع من الهجرة.
المحور الثالث: أم سلمة وصفات المرأة الداعية
رجاحة العقل فقد اشتهر بنو مخزوم بالرأي والشجاعة وشاركتهم أم سلمة رضي الله عنها في رأيهم وشجاعتهم وفازت عليهم بدخولها في بيوت النبي ، وقد بلغ من شجاعتها وصلابتها في سبيل الدعوة وبعد وفاة أبي سلمة كان لها من رسول الله أفضل خلف، فكانت من أهل مشورته، وممن حمل عنه العلم والحديث، كما كانت ممن ثبت معه في المواقف الحرجة، فلقد مرت على رسول الله أوقات صعبة في جهاد المشركين وكان من أصعبها صلح الحديبية، وثَقُلَ هذا الصلح على المسلمين وقَبِلَ رسول الله عقد الهدنة مع قريش، ونفرت نفوس كثير من المسلمين من هذا الصلح، ولم يثبت مع رسول الله في هذه الساعة إلا القليل وكان ممن ثبت معه زوجه أم سلمة بنت أبي أميه، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: (إن رسول الله صالح أهل مكة وكتب كتاب الصلح بينه وبينهم، فلما فرغ قال للناس: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» قالا: فو الله ما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاثاً، فلما فرغ قالت أم سلمة: يا رسول الله لا ترى أحداً منهم يفعل ذلك حتى تنحر بُدنك وتدعو الحلاق فيحلقك، فخرج ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا حتى كادوا يقتتلون على الحلاق، وجعل بعضهم يحلق بعضاً) البخاري كتاب الفضائل، باب فضل أصحاب النبي 7/353-357. فكان لمشورتها فائدة عظمى في تفريج هم الرسول وفي طاعة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين له،
أ – أم سلمة الفقيهة المحدثة:
وقد عاشت أم سلمة رضي الله عنها برهة من الزمن مع النبي في بيوت النبي وكانت تتزعم قسماً كبيراً منهن وتتوسط إلى رسول الله في أمورهن وأمور المسلمين، وكانت تسأله عن الفرائض، وتعلم سائليها، وبقيت بعده نصف قرن تهدي بهديه وتحدث بحديثه، ولم تتدخل في سياسة الحكم، فكانت تقول: (إن جهاد النساء غض الأطراف وضم الذيول وإنها لا تهتك حجاباً ضربه عليها رسول الله ) العقد الفريد 5 / 62، وسيرة ابن هشام 2/316. وكان من مواليها علماء من أئمة الأمة الإسلامية، فمنهم شيبة بن نضاح و أبي ميمونة وهما من قرَّاء المدينة الأعلام وكانا من أشياخ نافع بن أبي نعيم المدني المقرئ المشهور يقول الإمام الذهبي يرحمه الله: (وكانت رضي الله عنها تُعد من فقهاء الصحابيات ويبلغ مسندها ثلاث مئة وثمانية وسبعون حديثاً واتفق البخاري ومسلم لها على ثلاثة عشر انفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثلاثة عشر) سير أعلام النبلاء 20 /210.
ب – أم سلمة بين الحياء والشدة:
دخلت أم سليم رضي الله عنها على النبي فقالت: يا رسول الله المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: تربت يداك يا أم سليم فضحت النساء: فقال النبي منتصرا لأم سليم: بل أنت تربت يداك، إن خيركن لمن تسأل عما يعنيها، إذا رأت الماء فلتغتسل فقالت أم سلمة: وهل للنساء ماء؟ قال: نعم فمن أين يشبههن الولد؟ إنما هن شقائق الرجال.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ; أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ -وَهِيَ اِمْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ اَللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ اَلْحَقِّ, فَهَلْ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْغُسْلُ إِذَا اِحْتَلَمَتْ? قَالَ: «نَعَمْ. إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ»” اَلْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
أما شدتها في قول الحق فتتجلى في تصديها لعمر أن يتكلم في مراجعة أمهات المؤمنين لزوجهن المصطفى : فقد قالت له: عجبا لك يا ابن الخطاب! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه. قال عمر: “فأخذتني أخذا كسرتْني به عمّا كنتُ أجد” متفق عليه من حديث ابن عباس عن عمر .
ج – أم سلمة والحياة السياسية:
ولقد حاولت من بعده أن تتجنب الخوض في الحياة السياسية إلى أن كانت الفتنة الكبرى فآزرت أمير المؤمنين عليا.وقد ودت لو تخرج فتنصره ولكنها كرهت أن تبتلى وهي أم المؤمنين فكانت بذلك مثالا لكل داعية في اجتناب مواطن الفتن، وقد تقدم العمر بأم سلمة حتى امتحنت كما امتحنت أمة الإسلام ب “”مذبحة كربلاء”” فتأثرت بموت الحسين بن علي وقد كانت وفاة أم سلمة زوج النبي في سنة تسع وخمسين، فصلى عليها أبوهريرة فكان لها يوم ماتت أربع وثمانون سنة ودفنت بالبقيع.
خاتمة: صفات الداعية المسلمة من خلال أم المؤمنين أم سلمة.
لقد عرفنا سيرة أم المؤمنين أم سلمة في العهد المكي والمدني للدعوة، فكانت نعم الأسوة لكل من ركب سفينة الدعوة إلى الله إلى اكتساب مجموعة من القيم والمثل المتجلية في:
1 – المسارعة بالحفاظ على الدين.
2 – التضحية بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ على الدين.
3 – الصبر على تحمل الأعباء في سبيل الدعوة.
4 – الشجاعة والعزم على دعوة الغير لهذا الدين بكل قوة ويقين دون خوف أو تردد.
5 – الانقياد لسنة الرسول في الوعظ والإرشاد بطلاقة الوجه وتمثل فن الحوار.
6 – ضرورة تعلم االفقه وعلم الفرائض أسوة بأمهات المؤمنين.
7 – الحكمة وحسن التصرف في الأمور كلها امتثالا لقوله تعالى: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (البقرة: 267).
8 – اجتناب كل داعية لمواطن الفتن والخوض فيها.
ذة. عفيفة الغزال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
- السيرة النبوية لابن هشام دار المعرفة بيروت.
- طبقات ابن سعد محمد بن سعد بن منيع الزهري مكتبة الخانجي طبعة 1421 – 2001م.
- صحيح البخاري.
- سير أعلام النبلاء محمد بن عثمان الذهبي، طبعة دار الفكر بيروت طبعة 1422 – 2001 م.
- تراجم سيدات بيت النبوة الدكتورة عائشة عبد الرحمان دار الحديث القاهرة.
طبعة 1423 – 2002م.