إعلام الله تعالى الكافرين والمشركين بحبوط أعمالهم التي يعتدون بها -كما مضى- ما هو إلا حلقة في سلسلة النذر التي يسوقها القرآن الكريم؛ لإرعاب نفوسهم وإرهاب قلوبهم، جزاء وفاقا على ما اجترحوه من سوء، وما اقترفوه من ظلم. والحلقة الموالية؛ إعلامهم بمصائرهم ومآلاتهم التي سيؤول إليها حالهم بعد ذلك؛ زيادة في تخويفهم، وتقنيطهم، وإفزاعهم مما ينتظرهم في الآخرة. ونستعرض ذلك في حدود ما تسمح به الآيات موضوع الدرس:
1 – الخلود في النار:
يطلق (الخلود) على معان منها: البقاء، والإقامة، والدوام، واللزوم …، “فالخلد – بالضم؛ البقاء والدوام كالخلود”(1). وقيل: “دوام البقاء في دار لا يخرج منها أبدا”(2)، و”خلد يخلد خلودا؛ بقي وأقام”(3).
وكل هذه المعاني تليق بالكفار والمشركين الذين ماتوا على ما هم عليه وتناسب حالهم، كيف لا وقد أقبلوا على الله بأشنع فعل، وأعظم جرم؛ ألا وهو الكفر بالله أو جعل شريك له وهو الخالق.
وقد عبر الله تعالى عن مكثهم في النار بمصاحبتهم لها، كناية عن طول ملازمتهم فيها، كالصاحب الذي يلازم صاحبه؛ فقال جل جلاله: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 217)، ومعناه أنهم أهلها “المخلدون فيها. وإنما جعلهم أهلها؛ لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها المقيمون فيها، كما يقال: هؤلاء أهل محلة كذا، يعني سكانها المقيمون فيها. ويعني بقوله: هُمْ فِيهَا خالِدُونَ ؛ هم فيها لابثون لبثا من غير أمد ولا نهاية”(4).
وأخبر سبحانه أن ما قدموه من صنائع المعروف أو بذلوه من ندى، مهما قل أو كثر، لن ينفعهم ولن يجديهم؛ لأن الله تعالى يحبطه ويمحقه؛ لوقوعه على غير أساس من الإسلام والإيمان، فبذلك يستحقون الخلود في النار. قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (التوبة: 16-17)، وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (الكهف: 105).
قال أبو السعود مبينا مآلهم في نار جهنم بعد حبوط أعمالهم: ” ذلك بيانٌ لمآل كفرهم وسائرِ معاصيهم إثرَ بيان مآلِ أعمالِهم المحبَطة بذلك، أي؛ الأمرُ ذلك”(5).
2 – الخسران في الآخرة:
قال ابن فارس: “الخاء والسين والراء أصل يدل على النقص، فمن ذلك الخسر والخسران، [...] يقال: خسرت الميزان وأخسرته؛ إذا نقصته”(6).
“والتخسير: الإهلاك. والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك”(7).
“ومن المجاز: خسرت تجارته وربحت، وتجارة خاسرة ورابحة، ومن لم يطع الله فهو خاسر. وقد خسر خسارا وخسارة، وخسره سوء عمله: أهلكه”(8).
إن أخطر مصير يمكن أن يواجهه الإنسان؛ أن تؤول تجارته مع ربه إلى بوار، ويأتي يوم القيامة وقد بطلت وصارت في حكم العدم أعماله التي عملها في دنياه، والتي هي رأس ماله، وعليها المعول في نجاته من العذاب المهين، فيخسر الخسران المبين؛ كما وصفه الله جل وعلا في قوله: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الزمر: 15).
وقد بينت الآيات أن حبوط الأعمال مؤدٍّ تلقائيا إلى هذا الخسران وسبب فيه كما تدل عليه الفاء السببية في قوله جل شأنه: فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ في الآية الكريمة فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِين (المائدة: 52-53)، و”معناه بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفون نفاقا ليقنعوكم بأنهم منكم، كالصلاة والصيام والجهاد معكم، فخسروا ما كان يترتب عليها من الأجر والثواب لو صلح حالهم وقوي إيمانهم بها”(9).
وكقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (المائدة: 5)، وقوله جل جلاله: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (التوبة: 68-69).
“والخاسرون جمع خاسر، والخاسرون: الناقصون أنفسهم حظوظها -بمعصيتهم الله- من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه. فكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كان إلى رحمته، [...]، وقد قيل: إن معنى أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ: أولئك هم الهالكون”(10).
3 – انعدام النصير:
يطلق النصير ويراد به المعين، والمانع، والمنجي، والمخلص، قال السمين الحلبي: “والنصر والنصرة: الإعانة والمنعة، يقال: نصرته، أي؛ أعنته على عدوه ومنعته منه”(11)، و”نصره منه: نجاه وخلصه، [...] وتناصروا: تعاونوا على النصر”(12).
والنصر والتناصر إنما يُحتاج حال الشدائد والكروب التي تنزل بساحة الإنسان، وليس أشد وأكرب من يوم الوقوف بين يدي الله تعالى، خاصة لما يلتفت الكفار والمنافقون إلى أعمالهم التي يمكن أن تنجيهم مما هم فيه، فيجدونها قد حبطت وتلفت. فما ذا بعد، وما المخرج إذن؟.
لقد دأب هؤلاء -قيد حياتهم- أن يتعاونوا على الإثم والعدوان، ومحادة الله تعالى، ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ بل وقتلهم وقتل كل داع إلى الخير وآمر بالمعروف وناه عن المنكر من الناس، والتناصر على ذلك، والتنادي له، والتمالؤ عليه جهد المستطاع؛ لكن؛ هل يمكن لهم ذلك إذا ما صاروا إلى يوم الفصل الذي كانوا به يكذبون؟ كلا ثم كلا، إنهم -في موقفهم ذاك- يطلب منهم أن يفعلوا فلا يستطيعون، لما يأمر الله تعالى ملائكته بقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُون (الصافات: 24-26)، ولما يسألهم سؤال تعجيز وتهكم: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ؟(الصافات: 25)، مردفا ذلك بوصف حالهم بقوله جل جلاله: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (الصافات: 26)، استسلام ذل وخنوع وانكسار وتبكيت، بعد أن حق الحق، وبطل ما كانوا يعملون، وخُذلوا فيمن كانوا يدْعون، وللنصرة يرجون، قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (الأَعراف: 197).
تلك هي الحقيقة التي يقررها ربنا سبحانه في مواضع شتى من كتابه الكريم، وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِين (آل عمران: 21-22)، يعني: “وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذهم منه”(13).
4 – الهوان على الله وخسة القدر عنده:
قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (الكهف: 103-105).
لقد خلق الله الإنسان وأمره بالعمل، وبين له مجال وحدود سعيه ببيان دائرة الحلال، والحرام، والمكروه، والواجب، والمندوب، والمباح…، وأن لا حسن إلا ما حسنته الشريعة، ولا قبيح إلا ما قبحته. أما الحكم بحسن الأعمال وقبحها، على أساس الهوى والشهوة فلا تقوم به الحجة، ولا يعتد به عند الله تعالى، ولا يرفعه؛ بل يحبطه ويبطله؛ لاختلال شرط الإيمان، وعدم الإتيان به على وزان الشريعة وأحكام الدين، ويكون من أثر ذلك أن من كان هذا حالهم –فيمن سبق ومن لحق- فإن الله تعالى لا يعبأ بهم يوم القيامة، ولا تكون لهم عنده قيمة ولا كرامة ولا اعتبار، بل يستخف بهم ويهينهم ولا يكون لهم وزن في ميزانه، كما في حديث أبي هريرة عن رسول الله قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا » (14).
ومعنى فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا : أي؛ “لهوانهم على الله تعالى بمعاصيهم التي ارتكبوها يصيرون محقورين لا وزن لهم”(15)، أو “لا نضع لهم ميزانا توزن به أعمالهم لانحباطها”(16).
وقال الألوسي: “فنزدري بهم ونحتقرهم، ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً؛ لأن مدار الاعتبار والاعتناء؛ الأعمال الصالحة، وقد حبطت بالمرة. وحيث كان هذا الازدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال، عطف عليه بطريق التفريع”(17).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
د. خالد العمراني
————–
1 – القاموس المحيط للفيروز أبادي/ خلد.
2 – لسان العرب لابن منظور/ خلد.
3 – نفسه.
4 – جامع البيان للطبري بمناسبة قوله تعالى: فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة 217).
5 – إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود.
6 – معجم مقاييس اللغة؛ لأبي الحسين أحمد بن فارس/ خسر.
7 – الصحاح في اللغة للجوهري / خسر.
8 – أساس البلاغة للزمخشري/ خسر.
9 – المنار في تفسير القرآن الكريم؛ للشيخ رشيد رضا.
10 – جامع البيان للطبري بمناسبة قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (البقرة : 27).
11 – عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ؛ للسمين الحلبي/ نصر.
12 – القاموس المحيط للفيروز أبادي/نصر.
13 – جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري.
14 – صحيح البخاري. كتاب تفسير القرآن؛ سورة الكهف، باب أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم الآية.
15 – النكت والعيون لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي.
16 – أنوار التنزيل و أسرار التأويل لأبي سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي.
17 – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لأبي الثناء محمود بن عبد الله الآلوسي.