للمنهجية الإسلامية منظومة يمكن وصفها بكل يقين أنها متناسقة لا تناقض فيها، مع تكامل وشمول، مع توازن وصدقية لا نظير لها، والسبب في ذلك طبيعة مصدرها الذي هو الوحي المعصوم، الذي قال الله فيه: قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض}(الفرقان: 6)، والذي يعلم السر في السماوات والأرض لا يمكن أن يصدر منه اضطراب أو خلل، ففعله وقوله غاية في الحكمة الدقة والتناسق والتكامل، وهذا كفيل ببعث الطمأنينة القلبية تجاهه، وطرد أي شك أو تردد نحو صدقيته وجدارته بالتقديس والاحترام والدوام والصلاحية؟.
وفي هذا الموضوع سنكتب مقالين، وهما حديث عن موقع العقل ومنهجية التفكير في الرؤية الإسلامية، وأثر ذلك في البناء الحضاري للأمة.
أما عن منزلة العقل وأهمية التفكير في منظومة المنهجية الإسلامية، فأقول للقارئ الكريم:
بربك طالع مكتوبات الفلاسفة، وتجول بين مدارسهم وتأمل نظرياتهم؛ فلن تتحرك إلا بين جملة من المتناقضات، وسترى أنه لا تكاد تقوم نظرية إلا وتأتي أختها لتطيح بها وتبين زيفها، ثم قلِّب بصرك وأنعم نظرك في مقررات الأديان سماويِّها المحرف، وأرضيِّها المصنوع؛ فلن تخرج إلا بجملة من اللامعقولات المتناقضات، والمفتريات المضحكات.
لكنك لو يممت وجهك إلى القرآن الذي أحكمت آياته، وإلى الحديث الشريف الذي هو وحي خالص، ستجد في جانب التفكير وإعمال العقل ما يبهر ويدهش، وهاك شيء من ذلك:
1 – العقل مناط التكليف ومحور المسؤولية: فحيثما كان العقل حاضرا وكاملا وُجد التكليف وكانت المسؤولية، وإن غاب أو لم يكتمل فلا تكليف، يستوي في ذلك الرجل والمرأة، وفي الحديث الشريف: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق”. قال الآمدي: “اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف؛ لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال، كالجماد والبهيمة”. (الإحكام في أصول الأحكام: 1/138).
2 – العقل جارحة مخلوقة وليس إلها معبودا: على الرغم من تلك المكانة المهمة للعقل إلا أنه في المنظور الإسلامي لا يعدو كونه إحدى الجوارح المخلوقة بعد عدم، المدرِك بعد خلو وجهل، ثم تدرج في المعرفة شيئا فشيئا، وهو في النهاية محدد النطاق، محدود الإدراك، فكما أن للبصر قدرة ومساحة في الإبصار محدودة، وجملة من المدركات لا يتجاوزها في آن واحد؛ فكذلك العقل، فلابد أن يوضع العقل موضعه ولا يتحول إلى إله معبود.
3 – وظيفة العقل الفكر والعلم، وآفته التقليد والجمود والتعطيل: والعقل آلة وجارحة إن لم تعمل تعطلت وخمدت وانطفأ نورها، قال ابن الجوزي: “وشغل العقل التفكر، والنظر في عواقب الأحوال، والاستدلال بالشاهد على الغائب” (صيد الخاطر: 346). ويقول: “من وقف على موجب الحس هلك، ومن تبع العقل سلم” (صيد الخاطر: 352)، ومنهجية التفكير في الإسلام تعمل في تشغيل العقل وتفعيله؛ بحيث تسير البشرية على نوره مع نور الوحي الأعلى، فترشد خطاها وتحسن عاقبتها.
4 – ومن وظائف العقل النقد والتمييز وليس مجرد التلقي والتسليم: ولذا كثر في التنزيل ورود ألفاظ مثل التدبر والتفكر، والتدبر كما قال الجرجاني: “عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكرَ تصرفُ القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب “(التعريفات: 39). فالعقل المسلم في منظومة المنهجية الإسلامية عقل منتج مفكر متدبر وليس مقلدا مسلما فقط، ومن أجمل الوصايا وأكثرها أثرا في سامعها تلك الوصية التي حدث بها الشيخ ابن باديس رحمه الله قائلا: “وأذكر للشيخ محمد النخلي كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العملية عن تلك الوصية، كنت متبرماً من أساليب بعض الكتاب أو المصنفين في التأويلات الجدلية والفلسفية، فقال: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، يسقط الساقط ويبقي الصحيح. قال: فنفعتني هذه الوصية” (المصدر). فعقل المسلم مصفاة يبقي الصحيح ويسقط الساقط.
5 – الدليل الصحيح والبرهان الصادق عنوان الحقيقة، ولا حق بلا برهان: وهنا لابد من التسليم بعظمة الإسلام وهو يصوغ منهجية التفكير، حيث حرر العقل من الخرافة والأسطورة، ورفض كل ادعاء لا مستند له ولا دليل عليه، فكانت القاعدة القرآنية: قل هاتوا برهانكم ، وشرط الدليل كونه صحيحا، ثم شرطه بعد الصحة خلوه من معارض، ثم شرطه صحة الاستدلال به في محل النزاع، وعلم أصول الفقه الذي هو منطق المسلمين، وضع لضبط مثل هذه المسائل.
6 – لا نطلب شيئا من غير طريقه: في المنطق الفكري الإسلامي لا يطلب شيء من غير طريقه، يقول الإمام النسفي في عقائده: “وأسباب العلم ثلاثة: الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل” (المصدر) يعني أن هناك أشياء طريق معرفتها الحواس، فلا تحتاج في إثباتها إلى دليل غير كونها محسوسة، وهناك أشياء أخرى طريق العلم بها وإدراكها هو: الخبر الصادق، ولا يمكن أن تدرك لا بالحس ولا بالعقل، ولا يزال الناس يصدقون بوجود بلدان وأماكن لم يروها، وسبب التصديق بها كون ذلك منقولا إليهم عبر الأخبار وكلام الناس، وهناك أشياء أخرى لا يمكن إدراكها إلا بالعقل، فالملحد مثلا الذي يريد أن يدرك المعقولات بالحس، ثم يطلب دليلا على المحسوسات ويشكك في وجودها، ويكذب الخبر الصدق ولا يعترف به اتباعا لهواه.
فيقول لك إنه لا يؤمن بالله… معللا ذلك أنه لا يراه… وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن الله تعالى لا يدرك بالحواس (الرؤية)؛ وإنما يعرف بالعقل من خلال الآثار الدالة عليه، فالأثر يدل عقلا على المؤثر، والمسبَّبُ يدل على السبب.
وللحديث بقية في موضوع: “موقع التفكير في المنهجية الإسلامية”.
د. أحمد زايد