عرض الأستاذ الفاضل في الحلقتين السابقتين ما يلزم الأمة استحضاره وتذكره بمناسبة مولد الرسول ، ويواصل في هذه الحلقة الثالثة عرض جزء من عشر تذكرات
يجب أن نتذكر التأكيد القرآني المتواصل على التعامل المنهجي المنضبط بالعلم مع الظواهر والأشياء… وألاّ نستسلم لكل حالة إلاّ بعد إدخالها عبر ممرات الحواس والعقل: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا (الإسراء: 36) … على طرقه المتواصل على تشغيل العقل والحواس، والالتحام بكتلة العالم… بفيزيائه… من أجل اكتشاف طاقاته والقوانين التي تحكمه… هذا الذي قاد حضارتنا إلى ابتكار منهج البحث الحسّي التجريبي وأن تقدّمه أثمن هدية للحضارات البشرية والغربية على وجه الخصوص، فيما يعترف به ويؤكده الباحثون الغربيون قبل الشرقيين… الدومييلي الفرنسي، وجورج سارتون الأمريكي… وغيرهم كثيرون جداً… مما كان له الفضل في وضع التأسيسات الضرورية للحضارة الغربية المعاصرة…
ولهذا يجب أن نتذكر أننا ونحن نقرأ كتاب الله يجب ألاّ تكون قراءتنا له مجرد ركض على السطح من أجل تحقيق ختمة أو أكثر… وإنما الإيغال في المفاهيم التي يقدمها هذا الكتاب المعجز… أنظروا ما الذي يقوله كتاب الله بخصوص فيزياء الكون… إنه يختصرها بآيات ثلاث تتضمن: البدء والصيرورة والمصير… فيما أكدّته الكشوف الكوزمولوجية عبر العقود الأخيرة: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُون (الأنبياء: 30). فيما أكدته نظرية الـ Big Bang حول الانفجار الكوني العظيم في بدايات الخلق… وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذاريات: 47). فيما أكدته كشوف آينشتاين بخصوص الكون المتسع والمنحنيات الكونية المتباعدة… يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء: 104)، فيما يؤكده مبدأ قانون الدايناميكا الحرارية الذي يشير إلى تناقص الطاقة الكونية عبر مدة زمنية لا يعلمها إلاّ الله… بمعنى أن للكون نهاية لا ريب فيها…
تمعنوا في قسم الله سبحانه وتعالى بالظواهر الكونية التي تتعرض للكشف يوماً بعد يوم بواسطة أجهزة الرصد الجبارة… حيث في السنين الأخيرة تم اكتشاف نمطين من النجوم: نمط النجوم الطوارق التي تمضي في الكون فتطرق على كل جسم يمرّ بها وتثقبه… ونمط النجوم الكوانس التي تكنس وهي تسبح في الفضاء بصمت كل ما يمرّ في طريقها: وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ (الطارق: 1-3)، فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (التكوير: 15-16).
أنظروا جيداً فيما قاله كتاب الله عن ظاهرة الإمطار الجغرافية، في أكثر من ثلاثمائة آية، ومن مختلف الزوايا… فإنكم ستجدون أنفسكم أمام معجزة إيصال القطرة العذبة إلى الإنسان وإلى ضرعه وزرعه… وإلاّ ما استمرت الحياة على الأرض سوى أيام معدودات… ونحن نعرف أن تشكل حالة واحدة لمرة واحدة قد يكون من قبيل الصدفة، لكن عندما تنبني عليها حالة ثانية، فان هامش الصدفة يضيق… فكيف إذا انبنت عليها ثمانية حالات؟ ألا يحتّم هذا القول بوجود غائية أو قصد فوقي يرتب هذه الحالات الثمانية بعضها على بعض من أجل إيصال الماء العذب إلى أفواه العطاشى؟
إن معجزة الإمطار تبدأ بهذا الخزين الهائل من الماء الذي يغطي خمسة أسداس الكرة الأرضية ثم شكمه عن الطغيان على اليابسة… أي تسكينه… ونحن نعلم أن الماء الساكن سيتعرض للفساد خلال مدة زمنية قصيرة، فيقضي على الحياة، ومن ثم تنبني عليه حلقة ثالثة هي التمليح… وضع الملح في مياه البحار والمحيطات من أجل ألاّ تفسد… تجيء بعدها حركة التبخير… حيث وضعت الشمس في مكانها المناسب تماماً من حيث درجات الحرارة التي تسلطها على البحار والمحيطات من أجل التبخير… تعقبها حركة التوزيع… توزيع السحب المعلقة في سماء البحار والمحيطات… إلى سماوات الأرض… بجملة من الرياح العكسية والموسمية والتجارية والإعصارية… كأنها حركة (دشالي) المكائن الميكانيكية التي تتحرك بكل اتجاه من أجل توزيع عامل القوّة… ثم تجيئ حلقة التلقيح، اي مزاوجة السالب بالموجب من أجل تحول الماء من حالته البخارية إلى حالته السائلة… ثم تجيئ عملية التوزيع المتكافئ… ذلك أن المطر لو نزل بصيغة واحدة لما تحققت الفائدة سوى من عشره وتذهب الأعشار الأخرى هدراً إلى البحر… لكن بتوزيعه العادل: إلى الجداول والأنهار… وإلى الخزانات الجوفية التي تم الكشف أخيراً عن وجود ثلاث جدران لا تنفذ من آخرها ذرة واحدة من الماء فتذهب هدراً: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (الملك: 30)، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (الحجر: 22) … ثم إرسال الثلث المتبقي من الماء النازل إلى المناطق الجبلية الباردة، لتخزينه ككتل ثلجيه، ثم الاستفادة منه في مواسم الصيهد…
هذه الحلقات الثمانية المتراتبة في تسلسها، والتي إن غابت واحدة منها، انقطع وصول الماء العذب إلى الإنسان، والحيوان والزرع… من الذي رتبّها بهذا الشكل المحكم… غير إرادة فوقية، تسيّر الأشياء والظواهر إلى غاياتها عبر سلسلة من الحلقات التي يكمل بعضها بعضاً وينبني بعضها على بعض؟! وإلاّ فان أي تفسير آخر لا يعدو أن يكون نوعاً من الغباء في التعامل مع الظواهر والموجودات…
د. عماد الدين خليل