الرواية الثانية:
رواية أحمد المنصوري في كتابه كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر (بتصرف طفيف):
وقعة الهري الشهيرة
ثم انضاف للمعركة صناديد آخرون، منهم حوسا وأمهروق وباعدي، تراكضوا للمعركة فأبلوا فيها بلاء حسنا، فارتطموا مع العدو من كل ثنية ومنعرج، وكادوا يتماسكون بالأيدي مع العدو وما هي إلا هنيهة حتى تراجعت الجيوش المهاجمة منهزمة.
وكان من حسن الحظ، أن أبناء أخ محمد وحمو، وهم والعايدي، وشقيقه موح وعقى، ومعمى ابن الحاج حدو، وشقيقه بن عقة، كانوا لا زالوا لم ينزلوا مع عمهم بمعسكر الهري وما أن سمعوا ذوي المدافع بالسحر حتى علموا أنها الغدرة الموقعة لعمهم، فهبطوا من أطلسهم في أتباعهم الذين لا يقلون عن أتباع عمهم، وحولهم قبائل أيت شارط وأيت خوي وأيت بوهو … فلم يتجهوا نحو عمهم ومواقع المعركة بل علموا أن الجيوش تزعزعت من مراكزها، فهي تقصد المعسكر، لذلك قصدوا أن يقطعوا عليها خط الرجعة فقصدوا المدفعية وفتكوا بكافرها ورجالها، فتخطفتها الفرسان، وكان ممن قصد رجال المدفعية معمى ولد الحاج حدو، فحكى لنا أنهم شنوا الغارات حتى وقفوا على أكتاف المدفعية، فأصلوها نارا حامية فقاوموا مقاومة شديدة، غالبهم بالمسدسات، قال: فأصبت بطلقة نارية في بطني، سقطت منها أمعائي فما أن سقطت من فرسي حتى وجدت أمامي أختي وهي تساعدني في إرجاع الأمعاء الخارجة، فحاولت إرجاعها بيدها بكل جهد فلم تستطع، فبينما هي على تلك الحال، إذ بأحد الجرحى الساقطين بمقربة منا ينادي عليها نداء يهمسه من شدة الألم، حتى دنت منه، فقال لها، ارفعي رجليه بيد، وادفعي الأمعاء بيدك الأخرى ترجع لمحلها. قال فصنعت ذلك، فرجعت الأمعاء، وأخذت تخيط البطن ويساعدها بعض الإخوان الذين جاؤوا فخاطوها بخيوط حريرية من سبنية فوق رأسها، فكانت هذه المساعدة الأولى، فحملوه وعولج علاج البرابر، الذي هو الكي، فما مرت عليه أيام حتى كان على فرسه في معارك أخرى.
إنه وطيس المعركة الحامي، الذي انتهى بانتصار جيوش المسلمين، فانتظر زعيم معسكرهم حيث لا أثر للجيش الفرنسي يطل ولا خبر، وما هي إلا الطلقات تفزع، ثم تخفت تارة فيهيمن صوت مرعب مفجع، ويخيم الليل بظلامه ويرخي سدوله بشجونه وهمومه.
وليل كموج البحر يرخي سدوله
عليه بأنواع الهموم ليبتلى
ليبتلى بخيول المسلمين على المعسكر تطل، فتذهب به المذاهب حتى يكاد يجن، بل يضل. وكيف وقد رأى جيشه لم تبق فيه باقية، والشك في الذي بين يديه بالمعسكر كردإ أو حامية، فيختلط عقله ويجن كل الجنون، ويتحقق أنه المغبون في خطته، إذ تيقن أنه فناء الجيش كله، ضباطا وجندا عدة وعدا. الكل هدته الأبطال هدا.
هذا هو الهوان بل البؤس واليأس، هذا هو الخسران بل الطالع النحس. إذا فما هو الخلاص؟ الخلاص في الانتحار بإطلاق الرصاص، وهكذا يصوب مسدسه، وينتهي شريط القصة بختم أنفاسه. وهكذا يذهب الكولونيل لافيردور ضحية غدره، ويسلم الله بطل الأطلس، عالي الرأس شامخ المعطس …
يتبع…
حسن محجوبي