ينكر أن قانون الاختلاف هو من بين القوانين الكبرى التي بثها الله عز وجل في عالم الإنسان، ولا يخفى عن العقلاء، الحكمة الكامنة وراء هذا القانون، والمتمثلة في ضمان خاصية التكامل التي تعكس في جوهرها حقيقة أن هذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع يهب الحياة خصوبتها واتساعها، ويضفي عليها من سمات الحركية والإبداع ما يؤهلها للتجدد والبقاء. بل إن من أصالة هذا الاختلاف وتجذره في طبيعة الخلق أن جعله الله جل جلاله من آياته التي نصبها للتدبر والتفكر والاعتبار، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (الروم:22)، وهو اختلاف يختلف عن ذاك الذي جاء ذكره في قوله تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود: 118-119). فالاختلاف شامل لصفات الإنسان الخارجية شموله لما يحمله ويعبر عنه على مستوى الفكر والنظر والفهم والاستنباط.
ومن الواضح في ضوء النصوص السابقة أن التسليم بحقيقة الاختلاف لا يمكن أن يكون، بحال من الأحوال، مسوغا للانصراف عن دعوة الله إلى الوحدة والتوحيد، الذي يتم في إطار اختلاف التنوع المذكور آنفا، لأن الاختلاف المذكور في سورة هود، لا بد أن يفهم في سياق حرية الاختيار وما يترتب عنها من مسئولية وجزاء، فالقرآن الكريم زاخر بالدعوة الصريحة إلى الاجتماع والتوحد ورص الصف، مصداقا لقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (آل عمران: 103)، وقوله سبحانه وتعالى: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين (الأنفال:46). وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوص (الصف:4).
وهدي الرسول حافل بالحث على الاجتماع والتحذير من الفرقة والانقسام، يقول : «الجماعة رحمة، والفُرقة عذاب»(رواه أحمد والطبراني والبيهقي بسند صحيح من حديث النعمان بن بشير). ويقول : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(رواه الشيخان). فلا جماعة ولا تواد، ولا تراحم ولا تعاطف، إلا في ظل اختلاف التنوع لا اختلاف التناقض والتضاد.
ولعل من حقائق العمران والاجتماع البشري التي باتت ماثلة في الأذهان، أن الآصرة التي تشد الناس وتجمع شملهم، وترص بنيانهم هي آصرة القيم التي توحد المشاعر والأفكار، وتركز حركتهم في خط هادف يتجه قدما إلى تحقيق مآربهم المتعلقة بالمعاش والمعاد على حد سواء.
وبناء على ذلك يمكن القول بأن الأمم الأكثر نجاحا في تحقيق التوازن والانسجام، والقوة والالتحام، هي الأمم التي تحظى بالوحدة في أنساق القيم التي يقوم عليها البناء التربوي والثقافي لأفرادها، وتسخر لتحقيق ذلك وتجسيده مختلف مؤسساتها وعلى رأسها المدرسة والإعلام، ويمثل جهد الأمم في هذا السبيل مظهرا جليا من مظاهر الحكمة، بينما يمثل نقيضه غاية العبث، ومظهرا للنقمة التي تفضي إلى التمزق والبوار، والشتات والانهيار. ولن ينزع صفة العبثية عمن يعملون في اتجاه تنازع القيم وشتاتها أية ذريعة مهما ادعي لها من بريق الحكمة والواقعية، من قبيل التوافقية بين الفرقاء المتشاكسين.
ولعل أبرز المجالات التي يتجلى فيها التناقض والشتات القيمي الذي يربك سفينة المجتمع ويدخلها في وضع مأساوي بغيض، مجال التربية والتعليم الذي تمثله مؤسسة المدرسة. يقول مدير تحرير مجلة المدرسة المغربية الدكتور محمد الصغير جنجار في ختام بحث قيم تحت عنوان: «حدود الاختيار التوافقي وانعكاساته على منظومة القيم في المدرسة المغربية»: ”لعل من أهم عوامل هذا التطور اللامتوازن وغير المنسجم (…) هو كون المجتمع المغربي المعاصر (دولة ونخبا) لم يحدد بعد مهمة المدرسة، أو لنقل إنه كلفها بأداء مهام متناقضة. فعوض أن يجعل من المدرسة قلعة محصنة ضد التنافر القيمي القائم بشكل طبيعي في المجتمع، قلعة يسود فيها نوع من السلم العقدي والمعياري، صارت تتردد بين جدرانها أصداء النزاعات العقدية والقيمية المشتعلة في المجتمع. ومن ثم أصبحت المدرسة ورشة لصناعة الحيرة والتضارب القيمي”. (دفاتر التربية والتكوين عدد 5 شتنبر 2011). وصدق الله القائل: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار (يوسف:39).
د. عبد المجيد بنمسعود