رابعا:
ولنتتبع ما قامت به هذه المرأة المحبة العاقلة الحكيمة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها لتثبيت النبي .
أ – لما دخل عليها فزعا يرجف فؤاده استقبلته ولم تزعجه بكثرة السؤال عن حاله، بل نفذت أمره لها بتزميله فزملته، لأن حالته الغريبة التي رأته عليها -وهو الرجل القوي المتثبت الجريء اللسان والثابت الجنان- جعلتها تعلم أنه قد عاش شيئا لا يطيقه البشر العادي، فلم تحوجه لكلام بل تركته حتي يهدأ. وهذا من حكمتها، وقد كانت من قبل تساعده على خلوته فتزوده دون أن تكثر من الأسئلة لما كانت تري من أحواله الخاصة، وهي تلميذة ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان لديها معلومات عن قرب بعثة النبي الخاتم، وكانت تتفرس أن يكون زوجها هو نبي آخر الزمان خصوصا بعدما أخبرها خادمها ميسرة، ولا شك أنها رأت من خصاله وأخلاقه طيلة خمسة عشر سنة من العشرة ما يقوي عندها هذه الفراسة، ولعل أوان تحققها قد آن.
ب – حكى النبي لزوجته ما حصل له بالضبط وما كان ليفعل لولا حبه الشديد لها وثقته بعقلها وحكمتها، وقدرتها على استيعاب هذا الأمر الجلل، حكى لها دون أن تطلب لأنها محل ثقته وموضع سره، وذلك من آيات بيت النبوة فهل من مدكر؟ قص عليها ولم يكتف، بل شكى لها يلتمس عندها الرأي والمشورة حيث قال: مالي، لقد خشيت على نفسي. كأن عندها خبر ما له، أو بيدها علاج نفسه، لعل الحبيب خشي من أن يكون أصابه مس من الجن أو طائف من الشيطان. فما كان من المرأة المحبة الحكيمة إلا أن بشرت الحبيب مقسمة في يقين عجيب: كلا والله ما هذا بوسوسة شيطان ولا يكون للشيطان سلطان على مثلك وأنت المتخلق بالخلق العظيم: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. الله أكبر، هذه الأخلاق -في نظر هذه المرأة المباركة- هي التي تعصم من كيد الشيطان وخزي الرحمن. إنها لم تمدحه بكثرة جمعه للمال -وما كان له جامعا- ولا برجحان العقل -وقد كان أرجح الناس عقلا- ولا بفصاحة اللسان -وقد كان أحسن الناس منطقا- … بل وصفته بأخلاق الكرم والمروءة والنفع للناس قريبهم وبعيدهم، وتلك لعمري أخلاق محمد فبل البعثة التي امتدت لتشمل العالمين بعدها «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
إن يقين السيدة خديجة في نبوة رسول الله دليل على رجاحة عقل وصفاء روح واعتدال ميزان، فلا غرو أن يجعلها الله تعالى وزير رسوله ومؤنسه ومثبته، ويقرئها الباري منه السلام ويبشرها في الجنة بقصر من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
ج – وليزداد رسول الله يقينا واطمئنانا إلى أنه المختار أخذته إلى خبير بمثل هذه الأمور اجتمعت فيه شروط المشورة: فهو عالم بالدين السماوي السابق، يأخذه من مصادره بلغة أهله وليس مترجما أو بواسطة، وهو متمرس قد راكم خبرة سنين ثم هو محايد. وتلك أهم صفات الخبير الناصح، وهو ورقة بن نوفل الأسدي وهو شيخ قد تنصر، يكتب الإنجيل ويتقن العبرانية.
خامسا:
كان دور هذا الشيخ أن ينصت للنبي ثم يؤكد له -بما له من علم سابق- أنه نبي آخر الزمان وأن الذي جاءه هو ملك الوحي الذي يرسله الله لأنبيائه ورسله، ثم لينبئه بأن طريق الدعوة شاق وأنه سيلاقي فيه محنا وشدائد وإيذاء سيصل إلى درجة إخراج قومه له من البلد الحرام، وكأنما فاجأت هذه الكلمة النبي المليء بالخير والمحبة لقومه، فسأل مستغربا: أَوَمُخْرِجِي هم؟ قال: نعم تلك سنة جارية في إخوانك من المرسلين. ولا يظنن أحد أن مسألة الإخراج من البلد الحرام سهلة، فالدارس للقبيلة العربية يعلم متانة الروابط بين أفراد القبيلة، وأن إخراج أحد أفرادها منها أقسى ما تفعله به وليس فوق الإخراج إلا القتل. وكأنما كان دور هذا الشيخ ورقة بن نوفل أن ينبئ الرسول بهذا النبإ ثم يمضي إلى ربه متحسرا أن لم يكن شابا ينال شرف حمل الأمانة مع النبي ، وتلك إشارة أخرى إلى كون هذا الدين لا يحمله إلا الشباب القوي، فإن الأمانة لا يحملها ضعيف.
د. يوسف العلوي