تمهيد:
لقد سحر القرآن العرب وبهروا بروعته وحسن بيانه؛ لأنه معجز بكل المقاييس، من حيث لغته الفريدة، من حيث تأليفه العجيب، وتركيبه المحكم، ونظمه المتقن، كما أنه معجز أيضا من حيث تأثيره في النفوس. مما جعله يحدث هزة عنيفة في العبقرية العربية.
سنركز على الجانب التركيبي في هذا المقال لإظهار بعض تجليات الإتقان في تركيب القرآن من خلال معالجتنا لظاهرة الحذف. فما هي أهم الخصائص التركيبية للنص القرآني؟ وكيف يمكن الحديث عن الإتقان في تركيب الحذف في القرآن؟
1 – من خصائص التركيب القرآني:
قبل توضيح أهم الخصائص التركيبية للنص القرآني، نشير إلى أننا نقصد بالتركيب دراسة العلاقات التركيبية بين الوحدات اللغوية، والعلم الذي يهتم بتحليل هذه العلاقات هو علم التركيب، ويتناول بنية الكلمة والجملة وأجزاء الخطاب تأليفا وتركيبا، وهو علم لساني دقيق يعالج البنية التركيبية للجمل وما يطرأ عليها من تغيير تركيبي، كما يسعى إلى توضيح العلاقات التركيبية التي تربط بين الكلمات المشكلة لهذه الجمل، هذه العلاقات التي بدونها تصبح الكلمات مبعثرة بلا قيمة.(1)
وقد تبوأت اللغة العربية مكانة هامة في النظريات التركيبية المعاصرة؛ حيث عولج تركيب اللغة العربية وقضاياها من خلال نظريات لسانية معاصرة من منظور توليدي ووظيفي.(2)
فلماذا اعتنى النحاة والبلاغيون والأسلوبيون بتركيب ونظم القرآن الكريم؟
ما الذي يميز تركيب القرآن عن تركيب البلغاء؟
إن تركيب القرآن تركيب غير عادي؛ لأنه يتضمن أوجها من الإعجاز؛ سواء من حيث البنية التركيبية للجمل، أو من حيث هندسة الكلمات المؤلفة لهذه الجمل، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالحروف المقطعة في فواتح السور في القرآن الكريم نحو: «ألم» كما في سورة البقرة وآل عمران…
أو «ألر» كما في سورة يونس وهود وإبراهيم… الخ
التركيب القرآني تتداخل فيه قواعد النحو وفنون البلاغة، وتتبع ظواهره يقتضي معرفة شاملة بقواعد النحو واللغة والمعاني.
وعموما يمكن أن نجمل بشكل موجز أهم خصائص التركيب القرآني فيما يلي:
- على مستوى المفردات هناك هندسة دقيقة جدا تتمثل في وضع كل كلمة في موضعها التركيبي اللائق بها، وأن أي تغيير تركيبي وراءه حكمة، مما يدل على دقة الإتقان في تركيب القرآن.
- هناك هندسة دقيقة على مستوى البنية التركيبية للجملة، وتتمثل في انسجام أجزائها والتئامها.
- على مستوى اللغة هناك رعاية قوانين اللغة وقواعدها.
وسنبين بعض مظاهر الإتقان في تركيب القرآن من خلال تحليلنا بإيجاز لظاهرة الحذف في القرآن وتحديد بعض خصائصها التركيبية.
2 – الحذف مظهر من مظاهر الإتقان في تركيب القرآن:
ورد في شرح البسيط لابن أبي الربيع ما يلي:
“الحذف باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر”(3). ونظرا لما للحذف من صلة قوية بالمعنى اعتنى به القدماء عناية خاصة. وهناك تحاليل مشهود لها بالريادة كما هو في علوم البلاغة، حيث نجد بابا مستقلا في علم المعاني يهتم بالحذف وقضاياه الدلالية والتركيبية والتداولية(4). كما اهتم النحاة بهذه الظاهرة وبخصائصها، يقول ابن جني مثلا: “قد حذفت العرب الجملة والمفرد، والحرف والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه، إلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته”(5). وتحدث النحاة عن شروطه وضوابطه وأنواعه، ومواقع تقديره.
إن الحذف في كلام العرب أسلوب معهود ومسلك معروف، يعمدون إليه لتحقيق أغراض بلاغية معينة، تفيد في تقوية الكلام، وإخراجه على الأسلوب الأمثل. وقد جاء القرآن على نهج العرب في الكلام، فاعتمد الحذف أسلوباً من جملة أساليبه البلاغية، حيث ورد بكل صوره وأشكاله في الخطاب القرآني:
- حذف الاسم نحو قوله تعالى: واسأل القرية التي كنا فيها (يوسف:8) والتقدير اسأل أهل القرية.
- حذف الحرف نحو قوله تعالى يوسف أعرض عن هذا (يوسف:29) والتقدير يا يوسف.
حذف الفعل وقد ورد بشكل كبير في القرآن، وهو النموذج الذي سنركز عليه، فكيف يمكن الحديث عن مظاهر الإتقان من خلال حذف الفعل في تركيب القرآن؟
لنتأمل قوله تعالى:
1 – وقرآن الفجر (الإسراء 78).
2 – ناقة الله وسقياها (الشمس:13)
3 – ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا (النحل:30)
قبل تحليل هذه الأمثلة القرآنية نعتبر الحذف إجراء تركيبيا يقوم على إسقاط عنصر من البنية التركيبية.
ويرتبط بالتقدير وهو استرجاع العنصر المحذوف إلى البنية نفسها أثناء عملية التأويل.
ولتوضيح الإتقان في تركيب القرآن من خلال ظاهرة الحذف ننطلق من أن كل تركيب وقع فيه حذف هو تركيب ليس أصليا، بل هو تركيب محول، وبعبارة أخرى يمكن أن نميز في البنيات التي وقع فيها حذف بين تركيبين: تركيب ظاهر أو ما يسمى عند التوليديين بالبنية السطحية أو الصورة الصوتية (6) أو ما نطلق علية: الصورة المنطوقة، وبين تركيب خفي يمثل الأصل العميق للبنية التي وقع فيها الحذف.
إن تركيب الحذف يقتضي التمييز بين الصورة المنطوقة (الصورة الصوتية)، التي تجسدها الأمثلة السابقة، والأصل الذي تنتمي إليه (أي بنيتها العميقة).
فالجمل القرآنية السابقة بنيات خضعت لإجراء تركيبي يتمثل في حذف عنصر في بنيتها السطحية، وإذا كان القدماء يؤكدون أنه لا حذف إلا بدليل (7)، فإن الدليل الذي يمكن أن نتكئ عليه هو دليل الإعراب؛ حيث إن كل منصوب لا بد أن يكون له ناصب، ومن ثم نفترض فعلا خفيا (8) في البنية العميقة للجمل السابقة.
وعليه فإن الأصل المفترض أو البنية العميقة للأمثلة السابقة يكون على نحو ما يأتي:
1 – ألزم قرآن الفجر.
2 – احذروا ناقة الله فلا تقربوها. فحذف الفعل على التحذير.
3 – أنزل خيراً.
ويجب أن نشير إلى أن الانتقال من الصورة المنطوقة إلى البنية الأصلية (التركيب الخفي) يكون وفقا لمعطيات المعنى، أو وفقا لمقتضيات المعنى ونواميس اللغات الطبيعية.
وإذا كان تشومسكي يربط بين المستوى السطحي والمستوى العميق بواسطة قواعد تركيبية، وخاصة قاعدة أنقل (أ) فإن الإجراء الذي اعتمدنا عليه لاسترجاع العنصر المحذوف هو دليل الإعراب، الذي نعتبره رائدا لسانيا مفسرا له بعد دلالي، من خلاله يتم إرجاع كل بنية فرعية إلى أصلها التركيبي، إنه حمل للكلام على غير ظاهره لينسجم دلاليا مع أصل وضع الجملة، وهذا يدل على أن الحذف يقتضي استثمار ما هو تركيبي وما هو دلالي.
أما عن الإتقان في تركيب الحذف في القرآن فسنظهره من خلال المقارنة بين البنيتين: البنية المنطوقة التي وقع فيها الحذف وبنيتها الأصلية أو العميقة:
1 – فمن حيث المقارنة بين البنيين؛ يتبين أن البنية التي وقع فيها حذف؛ أبلغَ أثرا في المتلقِّي مقارنة مع البنية الأصلية أو العميقة، وقبول هذا النوع من التركيب عند المتلقي نابع من دقة الإتقان في تركيب الحذف في القرآن.
2 – من حيث الإيجاز والاختصار؛ ذلك أن البنية التي وقع فيها حذف (البنية المنطوقة) أوجز وأكثر اقتصادا، من بنيتها العميقة، وذلك ناتج عن انتقاء المفردات ودقة هندستها في البنية المنطوقة التي خضعت للحذف، مما يوحي بنوع من الإتقان في تركيب الحذف في القرآن.
3 – في البنية التي وقع فيها حذف تقوية للكلام، وحذف العنصر من هذه البنية هو الذي مكن من إخراجها على الأسلوب الأمثل.
خاتمة:
لا ندعي من خلال إظهارنا لبعض جوانب الإتقان في تركيب الحذف في القرآن أننا أحطنا إحاطة شاملة بتركيب القرآن ومعانيه ودلالاته وأسراره، فذلك لا نطمع فيه، وقصدي من هذه الدراسة هو أن أنال رشفة من بحر هذا البيان الإلهي، وحسبي أن أقف وراء ذلك وقفة المتأمل الخاشع عند شاطئ هذا اليم، أمتع البصر فيما عجز عن إدراك كنهه العقل، ولو كان البحر مداداً والشجر أقلاماً، فأسرار كلمات الله لا نهاية لها، فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله.
د. محمد الغريسي
—————
المصادر والمراجع:
* الدكتور محمد الغريسي، أستاذ مؤهل جامعة مولاي إسماعيل، الكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية
1 – للتفاصيل أنظر محمد الغريسي تكامل المستويات اللسانية في تفسير المعنى، المعنى المضمر نموذجا مقال ضمن كتاب “من قضايا المعنى في التفكير اللساني والفلسفي” الشركة التونسية للنشر والتوزيع 2015، ص723
2 – بخصوص النظرية التوليدية أنظر في هذا الشأن أعمال الدكتور الفاسي الفهري الذي حاول معالجة تركيب اللغة العربية من خلال مؤلفاته: اللسانيات واللغة العربية، البناء الموازي، ذرات اللغة العربية، وأنظر أعمال الدكتور محمد الرحالي في كتابه “تركيب اللغة العربية”، أما بخصوص النحو الوظيفي أنظر أعمال الدكتور أحمد المتوكل.
3 – ابن أبي الربيع، البسيط، ج2، ص617. وانظر كذلك المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لضياء الدين بن الأثير، ص268.
4 – انظر على سبيل المثال: الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز، مكتبة القاهرة، 1969، ص:360، 411.
5 – ابن جني، الخصائص،ج 2 ص:284.
6 – الإشارة ركز تشومسكي في أبحاثه الأخيرة وخاصة في البرنامج الأدنوي على الصورة الصوتية والصورة المنطقية وتخلى عما كان يعرف بالبنية العميقة والبنية السطحية
7 – حول ضوابط الحذف أنظر ابن جني ، وانظر أيضا الدكتور رشيد بالحبيب ” ضوابط التقديم والتأخير.
8 – يتماشى هذا التحليل مع الطرح الذي يقدمه النحو التوليدي حول ما يسمى بفرضية الفعل الخفيف.