الأمة الوحيدة اليوم في العالم التي تعاني أشد المعاناة بشتى صنوفها وألوانها، هي أمة الإسلام دون غيرها، فهي تعاني من ثلاث معضلات كبرى أثرت في ثقتها بنفسها تأثيرا كبيرا:
< تعاني منذ زمان من تفكيك وحدتها الجغرافية، وضياع وحدتها السياسية، حتى ترسخ الاعتقاد -أو كاد- في استحالة استردادها لكرامته، وحتى صارت الدعوة إلى وحدة الأمة غير مقبولة لأنها تعاكس الواقع الذي يجب الإقرار به والاستسلام له وليس علاجه أو رفعه، وما ذلك إلا بسبب داء الهزيمة النفسية الذي استشرى في جسم الأمة حتى أنساها ذاتها ورسالتها.
< تعاني من ضياع وحدتها الفكرية وتمزق هويتها الجامعة، وقد اختفى مفهوم وحدتها الفكرية والعقدية.. وتمزق المسلمون «طرائق قددا» فمذاهبهم متناحرة وأرواحهم متنافرة، وما عاد دينهم إلا مجرد رسوم تفنن في عرضه كل من يناقضه من ذوي الأهواء والفهوم. وفي كثير من دول المسلمين -قبل غيرهم- بات الإيمان بمبادئ الإسلام والدعوة إلى العمل بما فيه من خير للأنام كافيا لإدراج المرء في سلك صانعي الإجرام، وما ذلك إلا مظهر قوي لاستشراء داء الهزيمة النفسية...
< تعاني من ضياع لغتها الجامعة لفهومها، الموحدة لشعوبها؛ ولا أقول ضاعت هذه اللغة بسبب غلبة لغات المستعمر وتسارع الدعوة إلى استعمال العاميات فقط بل ضاعت بسب استشراء داء الهزيمة النفسية لتي حالت دون نصرة هذه اللغة. ولولا هذا السبب لما قويت اللغات المستعمرة ولا لهجات العصبية القومية المفرقة. وقد أصبح الحديث عن إحياء اللغة العربية واستعمالها كثيرا ما يقلق أبناءها قبل أعدائها، بل كاد أن يُقْرَن بِتُهَم التطرف والإرهاب...
حقا لقد صارت الأمة إلى ما صارت إليه من الهزيمة النفسية الفردية والجماعية بل الحضارية بسبب عوامل عديدة وعبر مراحل تاريخية مديدة، هزيمة قلبت الحقائق إلى أباطيل والأباطيل إلى حقائق، وأركست الأمة في مزيد من التيه الحضاري، وأبعدتها عن تصور ما يصلح لها، وعمقت الهوة بينها وبين مُصلحيها..
إن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة أولا لعلاج مرض الهزيمة النفسية المزمن قبل أي خطوة أخرى، وإخراج أبنائها من عالم الاستلاب إلى عالم الوعي بذاتها الحضارية وبرسالتها الإنسانية المنوطة بأبنائها، ولا يكون ذلك إلا بـ:
> إعادة الأمة إلى توحيد مصدر غذائها الفكري والإيماني الذي هو مصدر الوحي الصافي والجامع وهو كتاب الله تعالى وسنة رسول الله [، وما صح من علم الراسخين في العلم.
> تربية الأمة كل الأمة على الإحسان في فهم الدين أولا وحسن التخلق به ثانيا، فقد أُتِيَت الأمة من باب الفهم قبل باب العمل، إذ ليس الخلل في العمل إلا نتيجة للخلل في الفهم. و لم تتسرب الهزيمة أيضا إلا من جهة الإيمان والفكر قبل السلوك والعمل.
> الحث في السعي إلى بناء المؤسسات التي عليها المدار في تأهيل أبناء الأمة للاضطلاع بأدوارهم الحضارية، وتجديد الدماء في جسد الأمة: بدءا بمؤسسات التربية والتعليم والإعلام ومراكز البحث والعلمي والتربوي، واستثمار الموجود من الطاقات الصالحة والإمكانات المتاحة.
> تعميم الثقافة الإسلامية الأصيلة وتيسيرها وتسهيل تداولها، بما يجعلها أقرب إلى واقع المسلم وإلى حلول مشكلاته..
> خطاب تربوي حضاري متوازن ورصين وهادف يعيد الثقة للمسلم في دينه، ويرفع الهمم ويؤهل الأمة للشهادة على الأمم، ويغرس في أبنائها حب حمل الأمانة والاستقامة على هدي الرسالة والدعوة إليها بفخار واعتزاز: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(آل عمران:139)، مع الالتزام بآداب الدعوة من الحكمة والموعظة الحسنة والبصيرة …{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖوَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(يوسف: 108)
وأخيرا؛ لا نبالغ إذا قلنا إن داء الأمة الوبيل الذي استشرى في جسمها العليل لم يعد له من حل سوى أن نغرس قيم علو الهمة التي تَصْغر بها كل غمة، ونزرع الأمل والبشرى فهو الكفيل بإعادة مياه الأمة إلى المجرى…