عندما نتحدث عن ذكرى المولد يجب أن نتذكر الإنسان الجديد الذي كسر أصفاد العبودية والصنمية ورفع رأسه عالياً باتجاه الإله الواحد، متحرراً حتى أعمق خلية في بنيانه النفسي والروحي من كل صيغ الابتزاز والاستلاب، متحققاً بشعار “لا إله إلا الله” الذي إذا أحسن التعامل معه –كما يقول المفكر الفرنسي روجيه غارودي– فإنه قدير على تحويل الجبال عن مواضعها… ولقد تمكن صحابة رسول الله فعلاً من أن يزحزحوها، فيغيّروا خرائط العالم، وبلغوا إمبراطوريتي كسرى وقيصر وأنشأوا عالماً جديداً…
ومن أجل أن تعرفوا البعد الحقيقي لهذه النقلة الحضارية من الشرك إلى التوحيد يمكنكم أن تقرأوا كتاب “الأصنام” لابن الكلبي… لكي تروا الترهات والسخف والهبوط العقلي الذي كان يعيشه العربي قبل الإسلام بتعبّده للحجارة والأصنام ولجملة من الأكاذيب والأساطير والخرافات التي كانت تتحكم بحياته… تماماً كما تتحكم اليوم برقاب الناس ربوبيات الاقتصاد والمال والشهوات والطواغيت والساسة والحكام… فتذّلهم وتلصقهم بتراب الأرض وطينها ولزوجتها… فلا يرفعون رؤوسهم إلى السماء…
ويجيء شعار “لا إله إلا الله” لكي ينقلب على هذه الربوبيات الزائفة، ويكون ندّاً قديراً على مهمة استخلاف الإنسان في هذه الدنيا سيّداً على العالمين…
يجب أن نتذكر أيضاً كيف قدر رسول الله على أن يهزم التجزؤ السياسي و
يوحّد العرب في أمة واحدة… إننا من أجل تقييم هذه المعجزة علينا أن نتذكر وضعنا الراهن كأمة تعاني من التمزّق والشتات السياسي منذ سبعين سنة أو ثمانين سنة… ولم نستطع رغم المحاولات المتواصلة أن نوحّد شبرين من الأرض… لقد بدأنا رحلتنا مع القرن العشرين ببضع دويلات ثم ما لبثت أن ازدادت عدداً لكي تتجاوز العشرين دويلة، ثم تمضي تحت مبدأ “تجزئة المجزّأ” لكي تصبح ثلاثين وربما أربعين، وحتى التجارب الوحدوية النادرة التي أنشأناها انتهت إلى الانتكاس وعدنا إلى التجزئة مرة أخرى…
ما هي القوى الهائلة التي مكنت رسول الله من تحقيق هذه الوحدة؟ من لمَّ هذا الحشد الهائل من القبائل المتناحرة المتصارعة المتقاتلة التي أصبح الغزو خبزها اليومي.
وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا
فبقوة العقيدة استطاع الرسول أن يحقق المعجزة… أن يلّم شتات العرب في دولة واحدة قدّر لها أن تندفع بفعل حضاري متصاعد إلى الأمام… ولهذا يقول القرآن الكريم مخاطباً الرسول … لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 63).
يجب أن نتذكر كيف قدر رسول الله على بناء “الدولة”، فالأمة التي لا دولة لها لا حضارة لها… ذلك أن الدولة هي التي تنظم طاقات الجماعات والشعوب وتسيّرها باتجاه البؤرة الواحدة التي تعرف كيف تحرق وتضيء، والتي يتشكل من خلالها الفعل الحضاري ويتنامى متطوراً من حال إلى حال…
لِمَ ذهب الرسول إلى الطائف؟ عمّ كان يبحث؟ إنه كان يبحث عن الأرض التي ينشئ عليها الدولة الموعودة، فبدونها لن يقدّر للدعوة أن تشق طريقها إلى الأمام وأن تواصل صيرورتها وتناميها… فلما أخفقت المحاولة ولقي الرسول ما لقي من مطاردة وعذاب… لم يكل
ولم ييأس، وإنما واصل السعي من أجل الهدف نفسه… فقام بالاتصال ببضع عشرة قبيلة عربية عارضاً على كل منها أن يمنحوه الأرض والنصرة من أجل إقامة دولته ونصر دعوته لكنهم جميعاً رفضوا قبول العرض… فما كان إلاّ أن هيّأت أقدار الله الظروف المواتية في يثرب لكي ينطلق منها زعماء الأوس والخزرج ويبايعوا الرسول على ما كان يبتغي ويريد… وأنتم طلبة العلوم السياسية تعرفون جيداً الشروط الأساسية لقيام الدول: إنها الأرض والدستور والسيادة… فمن خلال توفر هذه العناصر استطاع الرسول من إقامة الدولة الإسلامية في المدين، والتي لم تكن دولة محلية، ولا دولة حاجزة بين إمبراطوريات كبرى، وإنما هي منذ لحظاتها الأولى دولة عالمية أريد لها أن تكون النواة التي تنتشر فيما بعد، وتحمل رسالتها إلى العالم… إلى الإنسان في كل مكان من أجل تحريره من قبضة الطواغيت وتركه حرّاً يختار العقيدة التي يشاء…