في هذه الحلقة نقف مع شيء من شعر أبي مدين الغوث، ونورد أولا النص الكامل لقصيدته التي اقتطفنا منها نتفا في الحلقة السابقة، قال أبو مدين:
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا
هم السلاطين والسادات والأمرا
فاصحبهمُ وتأدّب في مجالسهم
وخلّ حظّك مهما قدّموك ورا
واستغنم الوقت واحضر دائما معهمْ
واعلم بأنّ الرضا يختصّ من حضرا
ولازم الصّمتَ إلا إن سئلت فقلْ:
لا علم عندي، وكنْ بالجهل مستتـرا
ولا تر العيب إلا فيك، معتقدا
عيباً بدا بيّنا لكنه استترا
وحُطّ رأسك واستغفر بلا سبب
وقم على قدم الإنصاف معتـذرا
فإن بدا منك عيبٌ فاعترف وأقمْ
وجْه اعتذارك عما فيك منك جرى
وقـلْ عبيدكمُ أولى بصفْحكمُ
فسامحـوا وخذوا بالرفق يا فقَرا
هم بالتفضّل أولى وهو شيمتهم
فلا تخف دركا منهم ولا ضررا
وبالتغنّي على الإخوانِ جدْ أبداً
حسّاً ومعنى، وغُضّ الطّرفَ إن عثَرا
وراقب الشيخَ في أحواله فعسى
يُرى عليك من استحسانه أثـرا
وقَدّم الجِدّ وانهضْ عند خدمتهِ
عساهُ يرضى، وحاذر أن تـرى ضجِرا
واعلمْ بأنّ طريـق القومِ دارسةٌ
وحالُ منْ يدّعيها اليوم كيف ترى
متى أراهم، وأنّى لي برؤيتهم
أو تسمع الأذن مني عنهم خبرا
من لي وأنّى لمثلي أن يزاحمهم
على موارد لم آلـف بها كدرا
أحبّهم وأداريهم وأوثرهم
بمهجـتي وخصوصا منهم نفرا
قـوم كرام السجايا حيث ما جلـسـوا
يبـقى المكان على آثارهم عطرا
يُهْدي التصوّف من أخلاقهم طُرفاً
حــــــسْن التآلـف منهم راقني نظرا
هم أهل ودّي وأحبابي الذين همُ
ممّن يجـرّ ذيول العـزّ مفتخرا
لا زالَ شملي بهمْ في الله مجتمعاً
وذنبنا فيه مغفــــــوراً ومغتفـرا
ثم الصّلاة على المختار سيّدنا
محمّـد خير من أوفى ومن نــــــذرا
تعطينا القصيدة صورة عنْ نمط من الشعر في القرن السادس، فقد ساد الرأي القائل بأن الشعر العربي بدأ في هذا العصر يأخذ طريق الأفول، وذلك قبيل سقوط بغداد. ولا بد من الاعتراف بأن الشعر في الغرب الإسلامي كانت له خصوصيته النابعة من خصوصية الأوضاع العامة التي كان يشهدها هذا القطر الغربي من العالم الإسلامي. ورائية أبي مدين هذه نموذج لشعر تخلص من نمطية القصيدة المعهودة، لا من حيث الغرض فقط، بل أيضا من حيث البناء، حيث تحققت فيها وحدة فنية وشعورية، بالإضافة إلى وحدة الغرض.
وهي إلى ذلك تجنح إلى التصوير في شرح مبادئ التصوف. ومن هذا المبادئ التأدّب في المجالس، والتخلي عن حظ النفس، والتواضع، والاستتار بإظهار الجهل، وخفض الجناح، والاعتراف -مع النفس بالذنوب والعيوب، وفوق هذا، الحبُّ الذي ينبغي أن يكون الرابطة الجامعة بين الإخوان. وواضح أن الشاعر ينتقد ما آل إليه أمر بعض المتصوفة، مما جعل (طريق القوم دارسة)، لا يكاد يُـعثر فيها إلا على مدّعي التصوف والفقر. والفقر مصطلح دال على الزهد والتصوف. ولذلك يقول: ( وحالُ منْ يدّعيها اليوم كيف تـرى). ولذلك يبدي شوقه إلى من هم -حقا وصدقا- فقراء إلى الله تعالى، فهم أهل وده وهم أحبابه. وهذا مؤكد لما أشرنا إليه في الحلقة الماضية من أنّ أهل التصوف الحقيقيين صاروا أندر من الكبريت الأحمر.
ولأبي مدين قصائد أخرى مشهورة يُتغنى بها في الحلَقات، وقلّما يدري المنشدون لمن هي. ومن ذلك قصيدته البائية التي يقول فيها:
تذللت في البلدان حين سبيتـنـي
وبت بأوجاع الهوى أتقلـب
فلو كان لي قلبان عشت بواحد
وأتْرك قلباً في هواك يعذب
ولكن لي قلباً تملّكـه الهوى
فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرُبُ
على أنه قد نُسبتْ إلى أبي مدين قصائد ليست له، بل هي لشعراء مغاربة آخرين، ومنها قصيدة مالك بن المرحّل التي يقول فيها:
تملّكتم قلبي وطرفي ومسـمعي
وروحي وأحـشائي وكلّي بأجمعي
وتيّهتموني في بديع جمالكم
فلم أدر في بحر الهـوى أين موضعي
وتبكيهمُ عيني وهم وفي سـوادها
ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي
رحم الله الجميع.
د. الحسن الأمراني