أنفاسنا تنفق من العمر، وأوقاتنا تقودنا الى القبر، أعطيات ومنن كثيرة تنادي بلسان حالها هل من مجد ذي بصيرة نافدة وهمة متقدة؟
هل من معرض عن داعي التواني والدعة؟ هل من مقدر لبركة الأوقات وقيمة الأعطيات؟
فالفرص الثمينة وافرة الأجر لا يفطن لها من عقله مسبي في سجن الشهوة.
نسائم الأسحار وما تحمله من فضل وأجر وبركة، تنتظر من ينثر فيها بذور الطاعة، فيختلي فيها بربه يناجيه ويبث له شكواه ليكسوه بنور في صدره وبدنه وروحه، ويجعله من أهل الحكمة ومن السابقين المفردين، فهل تَزَوَّدْنا؟
يدعونا مثبط النوم لفراش وثير دافئ، وتنادينا الخيبة كل صباح لتضمنا الى حضنها مبتهجة بروادها الكثر؛ قائلة مرحبا بخمول أهل الدنيا؛ مرحبا بكم في عالم الكسل.
وأما من نثر بذور الجد وشمر على سواعد العزم والاجتهاد فسينال الحظوة والقبول. وسيوقظه هم الآخرة ليتزود من خيرات السحر، ولن تكون همته أضعف من همة طفل يحكي والده قصته مع قيام الليل، فقد: قام أبو يزيد البسطامي يتهجد من الليل فرأى طفله الصغير بجواره فأشفق عليه لصغر سنه ولبرد الليل ومشقة السهر. فقال له: اُرقد يا بني فأمامك ليل طويل. فقال له الولد: فما بالك أنت قمت؟ فقال: يا بني: قد طلب مني أقوم له. فقال الغلام: لقد حفظت فيما نزل الله في كتابه إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك . فمن هؤلاء الذين قاموا مع النبي ؟ فقال: إنهم أصحابه. فقال الغلام: لا تحرمني من شرف صحبتك في طاعة الله، فقال الأب وقد تملكته الدهشة: يا بني أنت طفل لم تبلغ الحلم بعد.
فقال الغلام: يا أبت إني أرى أمي وهي توقد النار تبدأ بصغار قِطَع الحطب لتشعل كبارها، فأخشى أن يبدأ الله بنا يوم القيامة قبل الرجال إن أهملنا طاعته.
فانتفض أبوه من خشية الله، وقال: قم يا بني فأنت أولى بالله من أبيك.
همة كبيرة في جسد صغير، وقد شابت أجسامنا وما نضجت هممنا. فما لجرح بميت إيلام؟
قوم أيقنوا بوفرة الغلة في زمن الحصاد فعملوا بجد، ونحن نزاحم أهل الخيبة في أسواق الهوى، أثثوا بيوت العز في جنات الخلد، وبنينا دور الخراب في أرض فانية.
وهذه بذور أخرى كبيرة إلا على الخاشعين، هي مطهرات خمس تغسل الأدران، وتجعلنا طهر الأبدان والأفعال والأنفس، قال عنها سيد الخلق : «أرأيتم لو أن نهرا على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات فهل يبقى على بدنه من درنه شيء؟ قالوا لا. قال: كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»(1).
لكِنَّا أفرغنا صلواتنا من الخشوع فأضحت حركات بلا روح، فما تلذذنا بالمناجاة فيها، ولا بسكينة سجودها وركوعها، بل تثاقلت فيها الأبدان وأدتها النفوس قهرا فما ارتاحت فيها ولا سكنت، ولكم تمنى غيرنا ممن أدرك وفرة حصادها أن يستمر في أدائها حتى بعد موته !، فقد نقل عن ثابت النباني أنه كان يدعو الله تعالى قائلا: اللهم إن كنت أعطيت أحدا الصلاة في قبره، فأعطني الصلاة في قبري، ويقال: إن هذه الدعوة استجيبت له.(2)
فهذا جسد ميت ساجد بين يدي الله، وهذه أبدان ما سجدت أرواحها أبد العمر فهل يبعث موتى الأحياء؟
ينادينا ابن الجوزي قائلا: «يا واقفا في صلاته والقلب غائب، ما يصلح ما بذلته من التعبد مهرا للجنة فكيف ثمنا للجنة؟ رأت فأرة جملا فأعجبها فجرت خطامه فتبعها، فلما وصل إلى باب بيتها وقف ونادى بلسان الحال، إما أن تتخذي دارا تليق بمحبوبك أو محبوبا يليق بدارك، خذ هذه إشارة إما أن تصلي صلاة تليق بمعبودك أم تتخذ معبودا يليق بصلاتك»(3).
واحسرتاه نقضي العمر، وانصرمـت ساعاته بين ذل العجز والكســـــــــل
والقوم قد أخذوا درب النجاة، وقـــــد ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل
فهل من مستيقظ من سبات الغفلة، لكيلا تتعمق الحسرات في زمن الحصاد.
دة. رجاء عبيد
———————-
1 – رواه ابن المبارك وصححه الألباني في صحيح الجامع 3518
2 – تهذيب الكمال في أسماء الرجال، جمال الدين ابي الحجاج المزي، ت بشار عواد معروف ج 5ص 223مؤسسة الرسالة طبعة1992
3 – المدهش لابن الجوزي ,، ص 376: ت حامد أحمد الطاهر البسيوني دار الحديث القاهرة، طبعة :2004