تعددت الآراء وتنوعت الأفكار واختلفت التعاريف عن الكتابة النسائية، أو بعبارة أخرى ما تكتبه الأنثى عن الأنثى أولا، وعن الآخر ثانيا، في كل الميادين، وحتى لاأجتر ما سبقني إليه غيري أقول واعتمادا على ما استنتجته من هذه التعاريف.
الكتابة النسائية هي ما تنتجه المرأة وتبدعه من بحوث وإنتاجات في مجالات متعددة: دراسات أو تحقيقات أو إبداع أو تأطير أو تنظير… في كل الفنون والعلوم.
وتنطلق هذه الكتابة من زاويتين:
موضوعية تكون دراسات أكاديمية، أو ميدانية أو تاريخية أو اقتصادية أو قانونية أو اجتماعية أو تحقيقات متنوعة…
ذاتية تكون إبداعا: شعرا أو قصة أو رواية أو مسرحا أو نقدا أو تأطيرا أو تنظيرا…
هذه الكتابة تكون مزودة بتأثر الكاتبة بما تلقته من معارف وعلوم من جهة، وما يحيط بها من ظواهر وقضايا في المجتمع من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة ما يسود من تلاقح الثقافات، فتتأثر بشيء منها، لفقدانها الحصانة الثقافية والدينية والخلقية، فتنبهر بما يسود في الضفة الثانية من حرية، وتقدم، وتطور في المجال العلمي، والتكنولوجي، والاقتصادي، فتحتقر نفسها ومجتمعها وأفكارها التي باتت حسب رأيها قديمة لا تساير هذا التقدم، وليست صالحة لهذا الازدهار، لأن الغرب الذي تقدم وتطور وصعد إلى الأقمار والكواكب، واخترع من الآلات والأجهزة ما لم يخطر على بال أحد، لا ينتمي إلى مجتمعها، ولا يحمل أفكارها، فالأولى لها ألا تحمل هذه الأفكار، عساها أن تلتحق بالركب المتقدم الذي فاتها.
فبهذه القناعة انطلقت من بعض الكاتبات تُنَظّر وتؤطر لتعبئة الفئة المحرومة من العلم والتعلم أو الوعي والتفقه في أمور الحياة صغيرها وكبيرها، بل تجاوزت هذا الأمر حيث انتقلت إلى صفوف الفئة المثقفة في شتى الأسلاك، وبين مختلف الفئات العمرية متخذة وسائل متنوعة ومغرية: كتابات ولقاءات مباشرة وندوات تكوينية وأيام دراسية وأمسيات ومحاضرات ومهرجانات …
والغريب في الأمر أن هؤلاء الكاتبات يعتبرن أنفسهن مناضلات ومسؤولات لإثبات الحقوق المهضومة، وتفوق الذات المهانة فتحملت المشاق والعنت في سبيل ذلك.
- أيحق لهن ذلك؟
- وعلى أي أساس يقوم تأطيرهن وينبني تنظيرهن؟
- ثم من هن هؤلاء المناضلات أو المسؤولات؟
- فما المسؤولية بهذا المعنى؟ وكيف تكون الكاتبة مسؤولة في المجتمع؟
هؤلاء المناضلات أو المسؤولات فئة من المثقفات اللواتي يحسبن أنفسهن مسؤولات في هذا المجتمع، فيحملن على عاتقهن مسؤولية إصلاحه وتقويم اعوجاجه، فيقمن بتنظير مجموعة من الأفكار ونشرها معتقدات أنها الأصل الذي تقوم عليه الحضارة، بل إنها ركيزة التقدم ووضع البنان على شفا التطور، والانفلات من رحى التخلف، حيث تبدو الحضارة الغربية حسب رأيهن كأنها نهاية التاريخ السعيدة، ويبدو التقدم كأنه دين الإنسانية الحديثة جمعاء.(1)
وأما المسؤولية فهي استعداد فطري، وهي المقدرة على أن يلزم الإنسان نفسه أولا، والقدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزامه بوساطة جهوده الخاصة ثانيا، وهي عظيمة القدر جليلة الوطر خطيرة الأثر، وهي تَحَمُّل قضية أو فكرة والاقتناع بها، لتَحَمُّل كل تبعاتها والتسلح بكل الآليات والأدوات لإبرازها وإخراجها إلى الوجود والعمل على تحقيقها على أرض الواقع، يقول الخاقاني: «المسؤولية هي الشعور بأداء الواجب والإخلاص في العمل، وليست المسؤولية مجرد الإقرار، فإن الجزم بالشيء لا يعطي صفة المسؤولية، وإنما يجد المتحسس بها أن هناك واجبات لا بد من الانقياد إليها بغض النظر عن النتائج. فالمسؤولية تختلف بلحاظ الأفراد وبلحاظ المجتمعات»(2). ورأى الدكتور عبد الكريم زيدان أن « من خصائص النظام الاجتماعي تحميل الأفراد مسؤولية إصلاح المجتمع، بمعنى أن كل فرد مطالب بالعمل على إصلاح المجتمع وإزالة الفساد منه على قدر طاقته ووسعه والتعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلوب».(3)
ومسؤولية الفرد نحو المجتمع تتلخص في:
- الالتزام بقانون الجماعة وهذا يستلزم من الأفراد الالتزام بعقيدة المجتمع الأساسية التي تعتبر أمانة اجتماعية.
- التعاون مع الجماعة في سبيل الخير العام..
- تقديم العمل الصالح والتنافس في هذا السبيل.
- نشر العلم الذي يسهم إسهاما إيجابيا في بناء المجتمع وتطويره واستغلال الذكاء في هذا السبيل.
والمقصود بالعلم العلم النافع، الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويُعبّد الطريق أمامهم لسلوك الخنادق والأنفاق التي تعترض حياتهم، وتصيبهم في عيشهم فيفهمون معنى وجودهم وغاية كونهم فوق هذه البسيطة؛ وليس العلم الهدام الذي يُغير خلق الله وينشر الفساد وأنواع الجرائم والغرائب.
وبما أن الكاتبة جزء من المجتمع فإن حالها لا يستقيم ولا تتسق شؤونها إلا إذا قامت بمسؤوليتها وأخلصت المعاونة في ذلك، لتنجح في مسيرتها وتحقق غايتها، لأن المسؤولية الحقةهي الالتزام بالأخلاق الفاضلة، وما ينفع الناس، ونشر الفضيلة والعدل بينهم، وليس الطعن في الأصول الثابتة والمسلمات الفطرية اعتقادا بتغييرها والإتيان بأحسنها. ويتمثل هذا الأمر في بعض الكتابات النسائية المتنوعة التي تدعو إلى التفسخ الخلقي والتطرف الديني والشذوذ في القضايا الإباحية بدعوى الصراحة والصدق في الطرح مستدلات بمقولة «حرية التعبير» أو» الضرورات تبيح المحظورات»، واختراق الشرائع الربانية بدعوى «حرية الفرد» و»حرية المجتمع»، ثم المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المخلوقات ليس بين الجنسين فحسب، فتعلو مخالفة الطبيعة الإنسانية والفطرة التي جبل عليها الإنسان باعتباره إنسانا، لتجاوز إنسانيته ليصبح واحدا من الطبيعة لا تمييز بينه وبين سائر المخلوقات الأخرى، حيث تنازل عن التكريم الرباني الذي منحه إياه رب العالمين.
فالكاتبة مسؤولة عما تصدره من أفكار أو تنظره من قضايا وتتحمل تبعات ذلك ونتائجه. واستقرار المجتمع أو ثورته مرتبط بما تحدده هذه المسؤولية وفقا للتصور المعين فتتسع أو تضيق. فالكاتبة مبدعة كانت أو ناقدة أو باحثة أو … حتما مسؤولة عن نفسها ولكنها من موقعها المتميز فهي مسؤولة عن غيرها بتحديد العلاقة القائمة بينها وبين غيرها، ومسؤوليتها مرتبطة بالوعي فكلما ازداد وعيها ازادات مسؤوليتها، كما أنها مرتبطة بدخول دائرة الفعل الثقافي عن وعي وبصيرة كيفما كان حجم ذلك.(4)
فهذه ليست دعوة إلى الانغلاق والوحدة بان تضع الكاتبة نفسها في قوالب جامدة أو تغيب ذاتها بالانسلاخ عن المجتمع والحضارة، وما يعتري الحياة من تغير وتقدم في كل حين وآن، وإنما هي دعوة إلى استيعاب دور الكلمة وأثرها في النفوس ومساهمتها في التأثير والتأثر، ودعوة إلى مسؤولية واعية بما يحيط بها من مظاهر التعدد داخل الوحدة.
ألم يان لأن تحاسب كل كاتبة -وفي أي مجال تكتب فيه –نفسها في ما تتناوله شؤون المجتمع وما تدعو إلى إصلاحه وتقويمه على مدى انطباق ما تقوله وتكتبه على سلوكها، ومدى استحقاقها أن تكون قدوة فيما تقول وتحقق من نتائج جراء ما خطته من قضايا وآراء.
د. لطيفة الوارتي
—————————-
1 – الخطاب العربي المعاصر قراءة نقدية في مفاهيم النهضة والتقدم والحداثة (1978-1987)لفادي إسماعيل، الطبعة الثانية 1993،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص 43
2 – علم الأخلاق النظرية والتطبيق، ص 148، نقلا عن موسوعة نضرة النعيم ، ص3401
3 – نقلا عن موسوعة نضرة النعيم ، 8\3407
4 – مشروع الثقافة البانية ، حسن الأمراني، ص51