أولا من معاني الآيات ودلالات صفات الله تعالى:
- يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء (البقرة:254) وهذه الحقيقة تدل على علم الله تعالى المحيط بكل شيء في كل زمان و مكان، محيط بكل دقائق الأمور وتفاصيلها، قديما وحديثا، ظاهرا وباطنا، غيبا وشهادة، في حين أن ما يعلمه البشر عن أنفسهم وعن أسرار الوجود ودقائق الكون لا شأن له أمام علم الله المحيط. وهذا النزر القليل من العلم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء:85) هو مجرد منحة ومنة من الله جل وعلا وفاء بوعده سبحانه سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (فصلت:52). ولكن أكثر الناس من المدعين للعلم مع الأسف يغفلون أو ينسون هذه الحقيقة ويفتنون بما أوتوا من العلم ويعجبون، وعوض أن يشكروا ربهم ويستزيدوه من العلم النافع، ليسخروه في طاعته، وفي تعمير الأرض بالخير وما ينفع البشرية في العاجل والآجل، والقيام بحمل أمانة الاستخلاف على أحسن وجه، عوض ذلك كله، يتنكرون لخالقهم، ويكفرون به، ويتخذون لأنفسهم آلهة مادية أو معنوية يعبدونها من دون الله جل جلاله، إن الإنسان حقا «لظلوم كفار»(إبراهيم:36).
- وسع كرسيه السماوات و الأرض ولا يؤوده حفظهما ولفظ الكرسي هنا يدخل ضمن متشابه القرآن الكريم مما لا يجوز البحث عن كنهه وحقيقته، فهو مما استأثر الله بعلمه، كالعرش وغيره من الغيبيات التي يجب الإيمان بها كما وردت في القرآن والسنة الصحيحة، دون تصور هيئة أو تشبيه أو تجسيم أو تأويل لا يصح. وفي العبارة كلها ما يوحي ويدل على عظمة الخالق وسعة ملكه وسلطانه وعلى كمال قدرته في حفظ السماوات والأرض فلا يتعبه إمساكها أن تزولا، ولا يثقله تدبير شؤونها، فهو سبحانه منزه عن كل نقص وعجز.
- ثم تختم الآية المباركة بهذه الحقيقة وهو العلي العظيم (البقرة:254) لتفرد الله العلي القدير بالعلو والعظمة، فهو متعال على سائر خلقه، عظيم في شأنه وجليل في قدره. وهي صفات لا تليق إلا به سبحانه، ولا ينبغي لأحد منازعته فيها. قال تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا (القصص:83)، وقال عن فرعون الذي كان مصيره الهلاك والخسران إنه كان عاليا من المسرفين (الدخان:30).
وهكذا يتبين مما سبق أن هذه الآية -آية الكرسي- المباركة هي بمثابة أفضل بطاقة تعريف لربنا سبحانه وتعالى. فقد اشتملت على أصول العقيدة في التعريف بحقيقة الألوهية والربوبية، واختزنت في عباراتها جميع أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ فكانت حقا أعظم آية في كتاب الله تعالى. وقد صدق الحبيب المصطفى والمربي المجتبى حين شهد لأبي بالعلم وهنأه به. إذ العلم الحق ما عرفك بربك ووصلك به. فمن عرف الله جل جلاله عرف كل شيء، ومن جهل الله سبحانه جهل كل شيء ولو امتلك علوم الدنيا. أي شيء فات من خرج من الدنيا وهو يعرف ربه!؟ وأي شيء يجدي من فارقها وهو لا يعرف خالقه ومن هو مقبل عليه !؟
فاللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
ثانيا من الهدى المنهاجي في الآيات:
- تيقنت من خلال الآية أن علم الله محيط بكل شيء، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فاحذر أخي الفاضل أن يراك على ما يكره في السر أو العلانية، أو أن يشوب عملك رياء أو نفاق أو تضمر غشا أو خداعا أو تحايلا في تعاملك مع ربك أو تعاملك مع خلقه.
- لا تجزع مما قد يصيبك من ابتلاءات ومحن فهو سبحانه مُجْري الأقدار، وعليم بكل الأحوال، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا (الطور:46). وله فيما يجري من ذلك حكم وأسرار، وهو أيضا المفرج للكروب وكاشف الأضرار، فلا يأس للمؤمن من روح الله سبحانه وتعالى، ولا قنوط من رحمته، ومن أدرك فضل ربه عليه وسعة رحمته ولطفه به فيما يحب وما يكره لم يسعه إلا أن يقول كما قال بعضهم:
ما مسني قدر بكره أو رضى
إلا اهتديت به إليك طريقا
أمض القضاء على الرضى مني به
إني وجدتك في البلاء رفيقا
- الحذر من تصديق المشعوذين والدجالين والكهنة والمنجمين في ادعاءاتهم علم الغيوب وقراءة مستقبل الناس ومعرفة ما يخبئه القدر لهم باستنادهم إلى السحر والأساليب الشيطانية.
طرق امرؤ باب عراف (شواف)، فقال العراف: من بالباب؟ ففطن هذا الزائر ورد عليه: «أنت لم تعرف حتى من خلف الباب فكيف تعرف مستقبلي!؟» فولى مدبرا ولم يعقب.
فعلام الغيوب هو الله وحده، و هو سبحانه ييسر لعباده الاطلاع على ما يشاء من العلوم، متى يشاء و كيف يشاء، وبالقدر الذي يشاء.
- حذاري من الوقوع في أي تشبيه أو تجسيم أو تعطيل أو تأويل باطل في أمور أسماء الله تعالى و صفاته وأفعاله جل وعلا، فالقاعدة هنا كما ورد عن مالك رحمه الله «الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب …»
- استشعار عظمة الخالق سبحانه وكمال قدرته في حفظ السماوات والأرض على ضخامتها وكبر حجمها منذ خلقها إلى ما يشاء الله لها من الزمان دون كلل أو ملل، فهل هناك من يقدر على ذلك غير الله تعالى!؟ سبحانه ما أعظم شأنه.
- أفضل «تأمين» حقيقة وأنفعه وأضمنه لك ولأهلك بعدك هو ما تقوم به عند من وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما. وذلك باستقامتك على أمره، والاجتهاد في الصلاح والإصلاح. فإذا فعلت حفظت في نفسك وأهلك، على قاعدة وكان أبوهما صالحا (الكهف81) وقاعدة وأدخلناهم في رحمتنا، إنهم من الصالحين (الأنبياء85).
- الحذر من منازعة الرب في علوه وجبروته وفي عظمته وكبريائه، فلا ينبغي التعالي أو الاستطالة أو التكبر أو التجبر على خلقه وعبيده «العز إزاري و الكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته»(من حديث رواه مسلم).
- إذا أردت العلا الحق فاعمل على تصحيح انتسابك إلى العلي الحق، فإن من صح انتسابه إليه لا يمكن أن يكون الأسفل. لذا كانت « كلمة الله هي العليا» وقال سبحانه لعباده وأنتم الاعلون إن كنتم مومنين (آل عمران:139).
- من أفضل ما تتقرب به إلى ربك هو دعاؤك له بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، والثناء عليه بها ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها (الأعراف:170)، خصوصا اسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب.
- ضرورة العمل على تعلم آية الكرسي وتعليمها للكبار والصغار من الرجال والنساء، على قدر ما تستوعبه عقولهم، والحث على التحقق من معانيها، والتخلق بمقتضياتها، والعمل على ضبطها قراءة وحفظا وفقها، وتطبيقها وتبليغها مع الإخلاص في كل ذلك.
- الحرص على الإكثار من قراءة آية الكرسي، بعد الصلوات المكتوبات وغيرها، وخصوصا عند النوم «فإنك لن يزال عليك من الله حافظ» كما ورد في حديث أبي هريرة الطويل الذي رواه البخاري.
- لنقرأ الآية مجددا، مرارا وتكرارا، ولنتدبرها جميعا، لعل الله يفتح علينا فنبصر أعمق وأبعد من هذا !
والله ولي التوفيق
د. محمد محتريم