في حوار يبدو أنه أجري مع المسؤول الأول عن التربية والتعليم، نُشر على بعض المواقع الإلكترونية، تم التطرق فيه إلى عدد من النقاط من بينها موضوع «تحسين تدريس اللغة العربية»، حيث اعتمد هذا التحسين على «نموذج اعتُمد» في أحد البلدان العربية، «وكانت له نتائج جيدة». ويبدو أن هذا النموذج قائم على فكرة «هي أن يتم تخصيص عشرين دقيقة من حصة العربية لدعم تعلم هذه اللغة، من خلال تكثيف أنشطة القراءة، كالقراءة الجماعية وتقديم عروض ومناقشتها».
هذه العبارات التي بين مزدوجتين هي بعض ما ورد في الحوار المذكور، فيما يتعلق ب»تحسين تدريس اللغة العربية».
وأقول بدءاً، إنه من حيث المبدأ لا أحد يجادل في ضرورة «تحسين تدريس اللغة العربية» والرفع من مستواها، قراءة وتعبيرا، فلقد وصل المستوى فيها إلى حد متدنّ بشكل كبير، كما أنه مبدئيا أيضا فإن الاستفادة من التجارب الناجحة للآخرين أمر جيد ومقبول إن لم نقل إنه مطلوب وخاصة إن لم يكن لدينا اطلاع عليها، وكانت الاستفادة منها مأمولة ومرجوة.
لكن مع ذلك تبقى مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها بإلحاح، خاصة في الوقت الراهن الذي يعاني فيه التعليم ببلادنا ما يعانيه.
أول سؤال هو إلى متى نظل دائما نستعير تجارب الآخرين؟ حتى ولو كان هذا الآخر جهة عربية، وحتى لو كانت هذه التجربة قد أثبت نجاحها هناك، فكيف وأن التجربة فاشلة من أساسها لأن التدريس في ذلك البلد لا يتم في الغالب إلا بالعامية، بما في ذلك تدريس اللغة العربية، فكيف نستعير شيئا هو معوج من أساسه، أي منذ «خروجه من الخيمة» كما يقول المثل المغربي.
لقد راكمنا العديد من التجارب ومن النماذج، أخذناها من هنا وهناك وخاصة من الجهات الغربية، دون أن نخرج بشيء ذي بال في مجال التربية والتعليم. وما زلت أذكر أنه في الثمانينات من القرن الميلادي الماضي كانت هناك محاولات لإدخال نظام «وحدات القيمة» (Unités de Valeur: UV)في نظام التعليم الجامعي المغربي،، آنذاك زارنا أستاذ جامعي فرنسي في شعبة اللغة العربية فلما سمعنا نتحدث في الموضوع، قال بالحرف الواحد: «إنكم تحاولون إدخال نظام نحن ألقينا به في النفايات»… والأمثلة كثيرة في هذا الباب، ولا أريد أن أستطرد فيها.
ولذلك أقول: إلى متى تظل خبراتنا الوطنية مهمشة في جميع القطاعات بما في ذلك قطاع التربية والتعليم؟
لقد أثبت المدرس المغربي كفاءة متميزة في التربية والتعليم في المستوى الابتدائي والثانوي، وفي التكوين والإشراف والتأطير على المستوى الجامعي، واستطاع أن يتكيف مع كل الظروف التي تصاحب عملية التعليم، بما في ذلك الظروف البيئية التي عايشتها أجيال من المعلمين الذين كانوا يرحلون إلى المدارس في القرى النائية في الجبال وغير الجبال، ويعملون دون كلل أو كسل، فتخرجت نتيجة ذلك الجهد منذ فجر الاستقلال أجيال وأجيال يُشهد لها بالكفاءة والتميُّز. ولم تختل هذه الكفاءة إلا بعد أن بدأت تتسرب إلى المنظومة التعليمية بعض الظواهر الغريبة عن مجال التعليم، بل الغريبة عن مجال قيمنا وحضارتنا وتقاليدنا.
يعرِف رجال التعليم العديد من الكفاءات التربوية، من المؤطرين في المراكز، ومن المفتشين المزاولين والمتقاعدين على حد سواء ممن لهم خبرة كبيرة في تدريسية (ديداكتيك) اللغة العربية، راكموا تجارب عدة تدريسا وتأطيرا منذ عهد الريشة والمحبرة واللوحة الخشبية لا الإلكترونية، ومنذ عهد «القراءة الجماعية» التي اعتبرت في الحوار المذكور تجربة جديدة… كل هؤلاء لهم باع كبير في ميدانهم، ولو قورنوا بنظرائهم من هنا وهناك من بقاع الأرض لفاقوهم علما وخبرة ومنهجا، ولكن لا يُلتَفت إليهم لأن مبدأ «مطرب الحي لا يطرب» مسيطر على كثير من الأذهان والعقليات. وهذا هو الغريب مع الأسف.
إن أكثر ما يحز في النفس أن تبقى خبرات المغاربة في جميع المجالات مهمشة إلى أن يلبي أصحابها نداء ربهم كما كان حال الفقيد عبد الله شقرون رحمه الله، فتذهب خبراتهم معهم بذهابهم إلى الدار الأخرى، أو أن ينقضّ عليهم مَن يستغلهم بشكل بشع مِن أهل الديار المتقدمة، فيبيعون ابتكاراتهم وخبراتهم ومعها يبيعون ذواتهم وهوياتهم ليصبحوا أدوات في أيدي الآخرين دون أن يخدموا أوطانهم بأي شيء.
د. عبد الرحيم الرحموني