من الأهمية بمكان، التمييز في سياق وجودنا الاجتماعي بين خروق مباشرة لسفينة المجتمع، وأخرى غير مباشرة، ولا فرق بين النوع الأول والنوع الثاني من حيث الخطورة إلا في الأسلوب الذي يحدثه كل منهما وهو يمارس تهديده لكيان السفينة، والذرائع المادية أو الفكرية التي يتخذها مطية لذلك التهديد.
ولعل مما يميز الخروق غير المباشرة أنها قد تتخفى وراء شعارات خادعة، تلبس لبوس الفكر الفلسفي والسوسيولوجي، أو تتلفع بالخطاب الحقوقي، ولو في صيغهما السطحية الفجة، الأمر الذي لا يتردد معه اليقظون العقلاء من أهل الفكر المنهجي الرصين،أو الباحثين في علم المنهج، في إدراج القضايا التي تحمل في سياقها الخروق المذكورة تحت نوع «القضايا الزائفة».
بل إننا قد لا نعدو الحقيقة والحق، إذا ما حكمنا على نوع الخروق الذي تمثله تلك القضايا الزائفة، بأنها أشد تهديدا وأبلغ أثرا في تصدع بناء السفينة، لما تجره عليها من بلاء مزدوج، يتمثل أحد شقيه في ما تورثه القضايا الزائفة من تشويش وبلبلة يلحق شرائحها، بفعل ما تبثه في أوساطها من سموم الأغاليط، وتنشره من شكوك ومخاوف وأراجيف، ويتمثل شقه الثاني فيما يخلفه من اختلال على مستوى منهج التفكير، والتعامل الرشيد مع مشكلات الواقع وقضاياه الحقيقية، من حيث صحة الفهم والاستيعاب، ودقة التحليل والمعالجة، وصواب ما يوضع من بدائل وحلول.
إن من يقذفون سفينة المجتمع ويرشقونها صباح مساء، بوابل من القضايا الزائفة، يرتكبون جرما شنيعا في حق الشعب، لأنهم بذلك الصنيع يتسببون له في شتات العقل وضياع الطاقة، ويصرفونه عن توجيه تلك الطاقة وذلك العقل إلى المشكلات الواقعية والقضايا الحقة، ومن ثم فهم يمثلون عقبة كؤودا في طريق التنمية، وسببا صريحا في ما يعانيه المجتمع من تخلف وجمود.
إننا لو قمنا برصد للمعارك والسجالات التي تخوضها فئة عريضة ممن ينسبون لمجالات الثقافة والفكر ضمن تيار الحداثة والعلمنة، لأصبنا بالذهول، وبالخيبة والاشمئزاز بعد ذلك، لما يعتري أغلبها من زيف وافتعال، ودونك أمثلة لذلك ما أحدثه ويحدثه أصحاب ذلك التيار من صخب وضجيج، بل ومن صياح وعويل، وحتى ندب ولطم للوجوه، جراء ما يطرحونه في سوق المساجلة والنقاش، من قضايا يحسبونها حقة فإذا هي عين الزيف والاختلاق، وذلك من قبيل قضية الإجهاض، وقضية المساواة في الإرث، وقضية الحرية في اللباس، التي رفع لها شعار «صايتي حريتي»، وقضية الإفطار علانية في رمضان، تحت شعار«مصايمينش»، وقضية الدعوة لاستعمال الدارجة في التدريس، وما إلى ذلك مما من شأنه أن يزج بالمجتمع في أتون حرب كلامية يضطر فيها الشرفاء بدافع الوفاء، وواجب المنافحة عن الحق، ورد الأمور إلى نصابها، إلى دخول غمارها، وهم يمتلئون أسفا ويتميزون غيضا، جراء النزيف الناجم عن تلك الحرب المفروضة على المجتمع ظلما وعدوانا، وكذبا وبهتانا، والحال أنهم في حل منها ومن عقابيلها وتداعياتها المدمرة، لو لم يبتل بفئة تسيء إلى الشعب، وتبدد ثروته، وتنتهك ميراثه، وهي تحسب أنها تحسن صنعا.
ولو أن هؤلاء المقتاتين من القضايا الزائفة تصالحوا مع الذات وآبوا إلى كلمة سواء، تجمعهم مع الأصلاء، وتعيدهم إلى منهج التفكير البناء، لوفروا على الأمة كثيرا من الجهد الذي حقه أن يصرف في معالجة القضايا الحقة، والمشكلات الواقعية المزمنة، مما يرزح تحت نيره الناس، وتنوء بثقل مياهه الراكدة سفينة المجتمع، وذلك من قبيل مشكلة التربية والتعليم التي تحولت إلى معضلة تحتاج إلى استنفار طاقات الجميع، ومشكلة انحطاط القيم، وتفكك الأسرة، واهتزاز البناء الاجتماعي، ومشاكل الفقر والأمية والمرض التي تقض الجميع، ومشكل الأمن الذي يؤرق الصغير والكبير، ويخلف جراحا تنزف على مدار الزمن، وهلم مشاكل ومعضلات.
إنه بلاء كبير وشرخ عظيم أن يوجد على ظهر سفينة المجتمع من يريد بها سوءا وشرا، وسيان أن يكون ذلك بوعي أو بغير وعي، فالعبرة بالنتائج والمآل، وبما يتهدد السفينة من خطر المحق والاستئصال، وصدق الله القائل سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف:103، 104).
د. عبد المجيد بنمسعود