حديث بنيان الكعبة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش في وضع الحجر


قال بن إسحاق: فلما بلغ رسول الله خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحه.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عمرو فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس. والناس ينحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة .
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار ولبني أسد ولبني عدي.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم نزغ -اللهم إنا لا نريد إلا الخير-. ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله صنعنا فهدمنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضا.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم.
فمكثت قريش أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة -وكان آنئذ أسن قريش كلها– قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا، فكان أول داخل عليهم رسول الله ، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال : هلم إلي ثوباً فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ثم بني عليه.(السيرة النبوية لابن هشام، بتصرف).

الإعداد الرباني لمحمد بن عبد الله لاستقبال الرسالة الخاتمة الشاملة قد أشرف على تمامه، فلم يبق على رحمة العالم ببعثته إلا خمس سنين، وحديث بنيان الكعبة أو تجديد بنيانها بالأحرى، يبرز صورة من نتائج هذا الإعداد المتمثل في الشخصية القيادية التي أصبح يتمتع بها محمد في الوسط القرشي خاصة والعربي عامة، فإن إعادة بنيان الكعبة لا يهم قريشا وحدها بل سائر العرب وطريقة حله للإشكال الذي كاد يصبح فتنة تتحول إلى حرب أهلية بين قبائل قريش تأكل الأخضر واليابس، وتستعر نارها أكثر من حرب البسوس، ويهلك فيها من خلق الله أكثر مما هلك في حرب داحس والغبراء، تبين بجلاء همة المصطفى ، ونبوغه في تدبير الأزمات، وإبداعه في اقتراح الحلول وتفوق شخصيته الجامعة.
وبالرجوع إلى النص نتلمس الآتي:
أولا:
إن الله تعالى اقتضت تدبيراته -وهو سبحانه الحكيم العليم- أن يجعل الكعبة المشرفة بيت الله في الأرض، وأول بيت وضع للناس ليعبدوا رب الناس، ثم أمر الخليل والذبيح برفع قواعده وتشييد بنيانه وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وجعله مهوى الأفئدة، وسخر له من يخدمه ويجله عبر تاريخه الطويل من أهل التوحيد وغيرهم، وجعله مثابة للناس وأمنا وهدى، نعم إن البيت العتيق هو الهدى الجغرافي لله تعالى في الأرض، والقرآن هو هدى الله المنهاجي، ومحمد بن عبد الله هو هدى الله البشري.
ولنتدبر قول الله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ”فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (آل عمران 95-96).
نعم “وضع للناس” كل الناس وهو “هدى للعالمين” كل أهل الأرض، فهل يفهم المسلمون خاصة والناس عامة قيمة هذه المعلمة التي جعلها الله تعالى مثابة وأمنا وهدى وحرما، وأمر بتطهيرها وتعظيمها…
وانظر كيف حرمها الله على الجبابرة والطغاة من أن ينالوها بسوء تحريما قدريا، فسلط الطير الأبابيل على أبرهة الأشرم لما عجز أهلها عن حمايتها، وقال كبيرهم عبد المطلب في يقين “إن للبيت ربا يحميه”
وتأمل غيرة المولى على بيته كيف ألهم قريشا أن يجددوا بناءه، وكيف نبه سيدا من ساداتهم أن يقترح عليهم أن لا ينفقوا في بنائها إلا ما طاب من أموالهم، فإن الله تعالى “طيب لا يقبل إلا طيبا”، دائما وأبدا، وحتى إن البيت حوله ثلاث مائة وستون صنما، وعماره أهل شرك ومنكرات، ومع ذلك يأبى الله تعالى إلا أن يبنى بيته من طيب المكاسب، فسبحان القادر على كل شيء.
ثانيا:
أهمية الكعبة لدى قريش: إن الله تعالى اصطفى قريشا ليكونوا عمار بيته، فبعد أن أسكن الذبيح إسماعيل وأمه هاجر عليهما السلام، وساق إليهم قبيلة جُرْهم التي صارت لها خدمة البيت، ثم دخلت بعد ذلك في صراع طويل مع قبيلة خزاعة التي أجلت جرهم عن خدمة مكة وتولت سدانة الكعبة، إلى أن استردتها قريش زمن قصي بن كلاب أكبر زعماء قريش في الجاهلية الذي طرد خزاعة وتولى سدانة البيت العتيق، وأسكن قريشا حوله، فشرفوا بخدمته حتى صاروا سادة العرب وأشرف شرفائها بلا منازع.
ولمعرفتهم بقيمة هذا البيت وكونه السبب في علو منزلتهم، وإقبال الناس عليهم، تنافسوا في تعظيمه وخدمته، فتراهم -حسب هذا النص– يجددون بنيانه بما يحفظه من الابتذال، ويزيده مهابة، ولا يتجرؤون على نبش حجارته أو حفر ترابه خوفا من انتقام ربه ومولاه سبحانه، إلى أن يغامر أحد زعمائهم فيضرب بمعوله وجلا وهو يقول: “اللهم لم نزغ، اللهم لا نريد إلا الخير” ، فهو يعلم كما يعلم العرب أن من حاول مسه بسوء انتقم الله منه، وما حديث أبرهة منهم ببعيد.
وعلى الرغم من أن الوليد بن المغيرة لم يصب بسوء وهو يهدم سور الحرم، إلا أن قريشا تربصوا به ليلة كاملة، إلى أن اطمأنوا عندما رأوه في الصباح الثاني غاديا بمعوله فعلموا أنها إشارة من الله تعالى أنه رضي فعلهم فغدوا مشمرين لنقض ما بقي من بنائه ليعيدوه مرة أخرى.
ويجدر الانتباه إلى أن الأشراف هم من تولوا الحفر والبناء، وقد كان لهم عبيد كثر يمكنهم أن يقوموا بالأمر دونهم، ولكن خدمة البيت الحرام شرف لا يؤثر به أحد أحدا.زاده الله تعالى تعظيما وتشريفا ومهابة.
فترى الشريف منهم يحمل الحجارة على عاتقه ولا ينأى بنفسه عن الغبار وهو في غاية السرور، لا يرى نفسه في موطن أشرف من هذا، ولا غرو فقد كلف الله تعالى في البدء أشرف خلقه الخليل والذبيح عليهما السلام بإقامة قواعده وتنظيفه وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، ومنذئذ كان خدمة البيت شرفا تشرئب إليه أعناق المسلمين، ومايلقاها إلا الذين شرفوا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
ثالثا:
ومن عجيب صنع الله تعالى وإكرامه لبيته أن يلهم قريشا ولا يدخلون في نفقة بنيانه من كسبهم إلا طيبا، فلا يدخلون في بنيانه “مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس”، ويفهم من هذا أن قريشا في الجاهلية كانت تفرق بين الكسب الطيب والكسب الخبيث، ربما ذلك من بقايا دين إبراهيم وإسماعيل ، وربما لأن الفطرة السليمة والنفوس الشريفة تستطيع أن تميز بين الطيب والخبيث.
لكن عندما بعث فيهم الطيب يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث كذبوه وحاربوه !
ولا عجب، فالكسب الطيب عزيز، لذا قصرت بقريش النفقة فلم يستطيعوا أن يعيدوا بناء البيت على قواعد إبراهيم وإسماعيل، بل نقصوا منه من جهة الحجر. ألا ما أعظم بركة الكسب الحلال: رجلان فقط هما إبراهيم وإسماعيل أقاما البيت العتيق تاما كاملا من كسبهما الحلال، وكل قبائل قريش لم يستطيعوا إتمام بنيانه من كسبهم “الحلال” ،لا شك أن الكسب الحلال كان نادرا آنذاك، (وهو اليوم أندر).
رابعا:
استعملت قريش في إعادة بنيان الكعبة خشبا من حطام سفينة لتاجر رومي ألقى بها البحر على ساحل جدة، واستعانت بنجار قبطي !
كأنه لا وجود لنجارين مهرة من قريش وما حولها من قبائل العرب، ولا وجود لخشب يؤخذ من جذوع النخل وغيره من أشجار الجزيرة !
ولولا أن الله تعالى سخر البحر لإلقاء خشب هذه السفينة الرومية وساق هذا النجار القبطي المصري، ربما لم يتهيأ لقريش ما تبني به بيت الله تعالى ومحل عزها ومجدها.
فإلى متى تظل الأمة في حاجة إلى غيرها في الضروري وغير الضروري من شأنها؟
خامسا:
نزاع الملإ من قريش على وضع الحجر الأسود باعتباره أشرف مكون من مكونات المسجد الحرام يدل من جهة على مدى تعظيمهم للبيت ورغبة كل قبيلة منهم في الفوز بشرف وضع الحجر في مكانه – والعرب في الجاهلية يقتتلون على أقل من هذا بكثير، فقد تدوم الحرب بينهم سنين بسبب قتل ناقة غريبة (حرب البسوس) أو بسبب سباق للخيل (حرب داحس والغبراء) فكيف إذا كان وضع الحجر الأسود في مكانه من الركن الأعظم للبيت الحرام-
لذلك اصطفت الأحلاف القبلية، بل أكد بعضهم أن هذه المسألة لن تحل إلا بالدماء فغمسوا أيديهم في جفنة دم ! هذا الظاهر، أما المخفي فهو صراع مرير على زعامة مكة التي كانت محصورة بين بني هاشم (السقاية والرفادة) وبني عبد الدار (السدانة والندوة واللواء)، حيث ظهرت قبائل قوية وقادة طامحون جدد أرادوا مزاحمة بني هاشم وبني عبد الدار على هذه المناقب، فبرزت قبيلة بني مخزوم ومن قادتها الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وآخرون، وبرزت بنو جمح ومن قادتها أمية بن خلف وأخوه أبي، وبنو سهم ومن زعمائها العاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وبني أمية ومن زعمائهم أبو سفيان وغيرهم، واستعرت المنافسة على سيادة مكة. ونلاحظ المضايقات التي تعرض لها أبو طالب زعيم بني هاشم حينما اصطف إلى جانب الرسول في دعوته وكيف استفرد أبو جهل بن هشام المخزومي بزعامة الحلف المعادي للدعوة وقاد قريشا يوم بدر ولم تكن القيادة لبني مخزوم يوما، وبعد موته انتقلت قيادة قريش لأبي سفيان زعيم بني أمية بن عبد شمس وهو الذي قاد المواجهة ضد الرسول ودعوته إلى فتح مكة. والظاهر أن قريشا في هذه المرحلة كانت في حاجة إلى قيادة جامعة توحدها ثم تجمع قبائل العرب حولها ليأخذ العرب مشعل حضارة العالم، حضارة منبعثة من منهج رباني وبقيادة نبوية راشدة.
سادسا:
إن اقتراح أبي أمية بن المغيرة المخزومي -وهو والد السيدة أم سلمة زوج النبي فيما بعد- تحكيم أول داخل من باب المسجد اقتراح طريف، وسرعة قبول قريش به دليل على أن الأزمة بلغت مداها وأصبحت تنذر بحرب أهلية بين قبائل قريش تحصد الأخضر واليابس. أما كون محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو أول داخل من باب المسجد في تلك الساعةفهو اختبار رباني، ودليل على حضور الرسول في شؤون قومه المهمة، ومشاركته في تدبير الشأن العام لقبيلته وبلده وسبقه إلى مراكز اتخاذ القرار، فلم يكن مع اللاهين من أقرانه من شباب مكة بل تجده وسط الملأ: في حرب الفجار وفي حلف الفضول واليوم في بناء الكعبة وفي كل عمل ذي بال. وهو ما جعله مفخرة قومه ومفزعهم في المدلهمات فما إن رأوه حتى قالوا: “هذا الأمين، رضينا، هذا محمد”، وأحسب أنه لو لم يكن محمدا ما رضوا، إنه محمد صاحب الخلق الرفيع والشرف السامي والتدبير الرزين والقسمة العادلة المنصفة.
سابعا:
إن الأمين المختار الذي صنع على عين الله تعالى طيلة خمس وثلاثين سنة استطاع حل الإشكال باقتراح منصف للجميع دون تمهل ولا تأخر، فقد فكر بسرعة وقرر بسرعة واقترح برفق وأقنع بعدل وحل المشكل من أساسه.
حل الإشكال بأن تم بناء البيت وهو المطلوب، ورضيت كل القبائل وحقنت الدماء وأغمد سيف الفتنة.
وتلك إشارة عظيمة إلى أن محمد بن عبد الله مبعوث بالرحمة والعدل وحسن التدبير وتوحيد الأمة وحقن دماء الأبرياء، وإشراك الجميع الأمر لإكمال بناء صرح حضارة الأمة.
كان هذا ولما ينزل عليه الوحي، فيا لجهل من يفتري عليه بهتانا أنه جاء بدين يدعو إلى سفك الدماء وقتل الأبرياء !
ثامنا:
إن الذي وضع الحجر الأسود بيده في موضعه هو محمد بن عبد الله ، فهو الذي حاز كل الشرف في إعادة بناء البيت الحرام، ومن أنسب منه لهذه المهمة العظيمة؟ وتلك إشارة إلى أن الذي سيجدد الله على يديه دين إبراهيم هو هذا النبي المبارك.
إن بيت الله الذي رفع قواعده إبراهيم يحسن أن يجدد بناءه محمد . كما أن شرع الله الحنيف الذي نزله الله على إبراهيم أتمه الله وأكمله على يد محمد . وتلك إشارة واضحة وقد قرب زمن البعثة المحمدية.

د. يوسف العلوي