كل يوم تطل فيه شمس إلا ويجد الناس الحاجة شديدة إلى ما يؤمن حياتهم ويحفظ وجودهم، وإنه لمن عظيم النعم على الناس كل الناس أن الله تعالى لم يخلق الإنسان في الأرض إلا بعد أن أرسى الكون على نظام آمن وقوانين ثابتة تأمينا له من أي مهددات، ولم يخلق تعالى الإنسانَ نفسه إلا بعد أن أمن له مصادر الحماية من ذاته (جهاز المناعة)، ومن خارج ذاته. وكان من أمهات التكاليف التكليف بأمانة حفظ الأمن وسبل إقامة العمران على سنن العدل والإحسان في إقامة الدين والقيام بأمانة الاستخلاف التي لا تتحقق إلا بجملة أمور على رأسها:
ـ الأمن الديني بإقامة الدين في حياة الناس إقامة صحيحة علما وعملا وتبليغا: ولا يكون ذلك كذلك إلا بتربية الناس على الإيمان بالله تعالى وإخلاص العبادة له، وتعليمهم دين الله تعالى تعليما صحيحا سالما من الفهوم المنحرفة به عن مقاصده بالتأويل والتعطيل. إذ ما من فتنة ظهرت في تاريخ البشرية إلا ومصدرها فتنتان: فتنة التعطيل التي يتولى كبرها في كل زمان فئة غالت في إنكار الدين وتعطيل شريعة الله تعالى والحيلولة بين العباد ورحمة رب العباد، ثم فتنة التأويل التي حملها طائفة من الناس فغالت في إيمانها غلوا ساقها إلى تأويل الدين تأويلا أخرجه عن مقاصده وآل إلى تعطيله أيضا بصورة من صور التعطيل. فنتج عن كل من التعطيل والتأويل المذموم شرور وبلايا.
- الأمن الاجتماعي ويدخل فيه كل صور الأمن التي لخصها علماؤنا الكرام في حفظ الضروريات الخمس. وتحقيق هذا النوع من الأمن رهين بتحقيق العدل بمفهومه الشامل الحسي والمعنوي بل هو معنى شمولي يدخل تحته كل تصرف لم يخرج إلى أحد طرفي التفريط والإفراط:
- فأول نوع من أنواع العدل وأَقواها هو العدل مع الله تعالى بالوفاء بما فرضه سبحانه على عباده من حقوق عبادته عبادة خالصة، وامتثال أوامره ونواهيه التي يرجع نفعها للإنسان نفسه في صلاحه مع بني جنسه ومع كل مخلوقات الله تعالى، حتى إن الله تعالى قرن بين عبادته وأثرها النافع في خلقه جلبا للمصلحة ودفعا للمفسدة؛ صلاة وصوما وزكاة وحجا، إلى حد أنه لا يتصور حق لله إلا وفيه حق للعباد، ولا يوجد تفريط في حق الله تعالى إلا وينتج عنه تفريط في حقوق العباد. ولذلك فالأمن الديني شامل معناه لأمن البشرية، ومقتضى الإيمان أن يكون المؤمن مصدر أمن لأن الله تعالى ما أنزل الوحي إلا ليتحقق الإيمان والأمن في النفوس والواقع. ولا معنى للعدل إلا بتوفير الأمن ولا أمن إلا بتحصيل منافع الناس المادية والمعنوية: أمن غذائي أطعمهم من جوع وأمن من المهددات والمخيفات وآمنهم من خوف ، وأمن من الجهل واتقوا الله ويعلمكم الله
والعدل كما يكون مطلوبا بين الأفراد يكون مطلوبا بين الأمم والشعوب.
- وثانيها العدل مع بني الإنسان وهو العدل الذي نزل به الوحي منذ آدم، وهو الأمر الذي تدركه الفطر السليمة والعقول الصريحة، ولم يأت فساد في هذا النوع من العدل إلا بعد فساد النوع الأول (العدل مع الله تعالى)، ولم يحصل بغي في تاريخ البشرية إلا بسبب خرق سنة العدل الإلهي والعدول عنها بالإصغاء لصوت الشهوات والأهواء والمصالح الفردية. وإن كل عدول عن العدل الرباني ولو كان جزئيا يولد قابلية لانحراف الطرف المظلوم بنفس القدر.
لذا فتحصين شعوب المسلمين من الظلم بجميع أنواعه – ظلم حقوق الله تعالى من التطاول عليها وظلم حقوق العباد – لازم في البناء والترشيد وهو بمثابة المناعة الطبيعية للجسم.
ولقد أصبحت أمتنا الإسلامية في هذه المرحلة أحوج ما تكون إلى تحقيق منظومة الأمن في بعدها الشمولي حتى تتأهل للخيرية والاستخلاف وقيادة أمم الأرض بالعدل والرحمة، وإن مختلف المشاكل التي تطفو على السطح ستخف ويضعف تأثيرها إن هي عملت بما يلي:
- تربية ناشئتنا على الفهم الصحيح لدين الله تعالى تصورا وتصرفا، ودعوة إليه وإقناعا به، فالأمة محتاجة كثيرا إلى أن يكون أبناؤها مسلمين متمثلين للإسلام عاملين به ممثلين له وداعين إليه، رسلا وسفراء لرسول الله [ يبلغون رحمة الإسلام للعالمين بالحال قبل المقال.
- إعداد ما يلزم لذلك من المؤسسات المعنية بالشأن العام وتأهيلها لإصلاح المواطنين على مقتضى شرع الله تعالى؛ فنظام التربية نظام شمولي أيضا لا يؤتي أكله الطيب إلا إذا أسهمت فيه كل مؤسسات الأمة وفق ثوابتها.
- حماية الأمة من كل الأفكار الدخيلة والفهوم المنحرفة، فلا أمن يرجى داخل جسم إن هو اخترقته المهددات وحرفت وظائفه أو عطلتها، بل الجسم لا يبقى قويا إلا إذا حافظ على مناعته فلا يقبل إلا ما يصلح ولا يفسد، ويقوي ولا يضعف، ويبني ولا يهدم.
- تكوين علماء ربانيين قادرين على ترشيد مسيرة الأمة وحفظ توازنها، وإن كثيرا من صور الخلل تسرب إلى الأمة يوم توقفت الأمة عن إنتاج العلماء الربانيين، وازداد الأمر سوءا يوم بعد يوم.
ألا فالعلماء هم جهاز المناعة في الجسم؟ ألا فالعلماء الربانيون هم حماة بيضة هذه الأمة؟ ألا إن العلماء العاملين هم أطباء النفوس والجوارح والعقول. فمتى نعي مكامن الداء ونعالج مشاكلنا بما صح من الدواء؟!