في صمت رهيب رحل المخترع الشاب عبد الله شقرون إلى دار البقاء بعد أن خلَّد اسمه مع العظماء الذين لم يكن لهم هَمٌّ إلا خدمة البلاد والعباد.
كنت أنوي الكتابة عن الفقيد رحمه الله حينما قدمت إحدى القنوات الفضائية –منذ سنوات- تقريرا مقتضبا عنه في حوالي دقيقتين، وفي الحقيقة لم أكن أعرف عنه أي شيء قبل مشاهدتي هذا التقرير، بل لم أكن أسمع عنه على الإطلاق.
أولُ ما لفت انتباهي من خلال التقرير فصاحةُ اللغة العربية التي كان يتحدث بها المرحوم وبطلاقة، مما يعني أن الحديث بالعربية والقراءة بها أمر متعود عليه دون تكلف، فاهتمامه وانشغاله بالإبداع والإنتاج والاختراع في عالم تهيمن عليه اللغة الإنجليزية، لم يمنعه من إجادة لغته الوطنية والحضارية التي هي اللغة العربية، ولم يذهب مذهب المتنطعين الجلادين لذواتهم الذين يدَّعون بأن العربية لغة صعبة أو لغة لا تتماشى والعلوم الحديثة، ويسعون جاهدين لتثبيت لغة موليير أو شكسبير.
والأمر الثاني اعتزاز الشاب –وهو في مقتبل العمر– بقِيَمِه وحبه لوطنه وغيرته على أُمّته، لم يجذبه أَلَقُ المادة وبريقُها إلى اللهث وراءها، ولم تجرفه خِفَّةُ الشباب وطيشه إلى الانحراف أو على الأقل إلى طلب العيش كما يعيش العديد من الشباب انتظارا لخبزة تأتي «باردة» دون مشقة أو تعب، أو قد لا تأتي على الإطلاق، ولم يدفعه حب الظهور والخوف على المستقبل إلى الهجرة واعتناق عالم الماديات رغم ما قُدّم له من عروض سخية مغرية ضخمة يسيل لها لعاب كل باحث عن الشهرة، طامع في المادة والربح اليسير.
والأمر الثالث هو النموذج الحضاري المثال الذي كان لدى الفقيد رحمه الله: إنه نموذج عباس بن فرناس الذي حلم بالطيران في وقت كان مجرد التفكير فيه يعد حمقا وجنونا. إنه نموذج ابن الهيثم العالم الموسوعي الذي حلم بإنجاز مشروع ينظم مياه النيل يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان، إنه الخوارزمي.. رائد علم الفلك والرياضيات في العالم، الذي كان له الفضل في استخدام العالَم للأعداد العربية التي غيرت بشكل جذري مفهوم الأعداد الذي كان سائدا قبله… نماذج ونماذج، كانت إسوة اقتدى بها الفقيد… كان هو الآخر يحلم بإعادتها إلى الواقع الراهن.
وبفضل الله وعونه ثم بجهده الخاص وإيمانه بأن تحقيق كل صعب يهون، عملا منه بالحديث المأثور الذي ختم به الفقيد رحمه الله أحد لقاءاته: «الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة»، تمكَّن الفقيد رحمه الله من إنجاز الكثير، حيث عُدَّ رحمه الله وهو ابن 32 ربيعا واحدا من أبرز المخترعين الشباب، فهو أصغر مخترع مغربي وعربي ومسلم معترف به دوليا، وقد تمكن من تسجيل أزيد من 37 اختراعا، جلها تهتم بعالم المحركات والميكانيك..
والأمر الرابع هو التجاهل الذي أحيط به من كل جانب من قِبل وسائل الإعلام عندنا التي تبحث عن كل صغيرة وكبيرة -حتى عما يسيء إلى الوطن في كثير من الأحيان-، وتَرْقُب عن كثب حركات الأقدام في الملاعب، وتتعقّب رنات الأنغام في المعارض والمسارح، ولكن لا تلتفت إلى من يثقل الهمُّ بالَه والتفكيرُ ذهنَه في الرفع من شأن وطنه وبناء قيمه، ولا «تبحث» عن مثل هؤلاء المغاربة الذين رفعوا رأس المغرب عاليا بين القِمم؛ لا تلتفت لذلك ولا إلى ما ماثل ذلك، وإن فعلت فقبسة عجلان، ليس أكثر.
والآن وبعد وفاته رحمه الله لم يبق لي إلا أن أؤكد هذه الانطباعات من جديد، قائلا: لقد كان ثابت الإيمان في كل شيء بما في ذلك الإيمان بالقضاء والقدر، وقد نُقِل أن
آخر تدويناته على «الفيسبوك» جاء فيها: «ﺭﺑﻤﺎ ﺗﺘﺄﺧﺮ ﻭﻇﻴﻔﺘﻚ، ﺭﺑﻤﺎ ﻳﺘﺄﺧﺮ ﺯﻭﺍﺟﻚ، ﺭﺑﻤﺎ ﻳﺘﺄﺧﺮ ﻋﻼﺟﻚ، ﻭﻟﻜﻦ ﻟﻦ ﻳﺘﺄﺧﺮ ﺃﺟﺮﻙ ﻭﺑﻘﺪﺭ ﺻﺒﺮﻙ ﻳﺄﺗﻲ ﻓﺮﺣﻚ ﻭ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮ ﺇﻥ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺴﺮ ﻳﺴﺮﺍ».
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، ورزق ذويه الصبر وضاعف لهم الأجر، ورزق الوطن والأمة الخلف فيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
د. عبد الرحيم الرحموني