لا شيء في اعتقادي يعدل لفظ الأمانة أو مصطلح الأمانة في سعة مفهومه وقوة معناه، إذ ليس في وسع أحد أن يستبعد من مجاله الفسيح وما صدقه الواسع أي حركة أو سلوك، صغر أو كبر، مما تقتضيه سلامة السفينة واستقامة جريانها في المجرى اللاحب نحو شاطئ النجاة وبر الأمان. بل إنك لو تأملت مليا جملة من المصطلحات المركزية الكبرى المرتبطة بثقافة الإسلام وتصوراته القيمية العليا، لظهر لك جليا كونها مستغرقة فيه أو كونه مستلزما لبعضها أ و عديد منها، كالصدق والإخلاص، والرحمة والوفاء، على سبيل المثال لا الحصر، فهل يمكنك أن تجد إنسانا أمينا بالمعنى الحق للأمانة دون أن يكون صادقا أو وفيا ورحيما؟ ولك أن تستقري سلسلة من الفضائل التي يتوقف أمر استقرار الحياة عليها وتضعها في ميزان الأمانة، فإنك واجد لا محالة ارتباط كل منها وإياه بوشيجة من الوشائج المعنوية، بحيث تجد الجميع ينتمي إلى شجرة كبرى وارفة الظلال، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
وتتجلى مركزية الأمانة لأنظارنا باعتبارها منبعا من منابع الخير، والاتصاف بخصالها والتشبع بمعانيها معقدا للبركة واليمن، إذا تصورت مجرى الحياة خاليا من إكسيرها ومحلولها، فلست تفتح عينيك حينها إلا على ركام من الخراب، أو على هياكل قد لا تخلو من بريق، ولكنها في حقيقة أمرها مسوسة منخورة آيلة إلى حطام. وهل نحتاج إلى التصور وواقع المجتمعات البشرية التي أنهكتها نقائض الأمانة ماثل أمامنا يلفحنا بمشاهده السيئة، وصوره الكئيبة الصادمة؟
لقد كانت الأمانة في ارتباطها بالصدق هي عنوان شخصية الرسول الأعظم سيدنا محمد [، قبل البعثة وبعدها، إذ كان عليه الصلاة والسلام يسمى بالصادق الأمين. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب، والحال أن رب الكون وخالقه سبحانه وتعالى، قد جعل من الأمانة محورا لوجود الإنسان على هذه الأرض، وميزانا لاختباره فيها، ومضمارا يتبارى طلاب الفوز والنجاة في بلوغ أرقامه القياسية، وفي بلوغ أرقى درجاته السامية. يقول الله عز وجل: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب:72). وإذا كانت الأمانة المعنية في الآية الكريمة هي الأمانة العظمى المتمثلة في طاعة الله والاستجابة لأمره، فإن تجلياتها اللامحدودة تشمل كل حركات الإنسان وسكناته، ولا يستثنى منها شيء ـ كما سبق أن ذكرت ـ بل وكل جزء من كيانه المادي والوجداني، مما يتطلب منه أن يكون في كامل اليقظة والاستعداد للتصدي لأي عارض من شأنه أن يشكل عائقا أو مشوشا في طريق الحفاظ على الأمانة في أي شكل من أشكالها أو تجل من تجلياتها. وإذا كان من معاني الأمانة «الوديعة»، كما هو مذكور في القواميس، فإن تأمل دلالات الوديعة في حد ذاته يكشف لنا عن إمكانية سحبها على شتى المواقف والمواضع، فالطفل في حضن والديه وأسرته أمانة بمعنى وديعة، والتلميذ في المدرسة بين أيدي معلميه وأساتذته وديعة وأمانة واجبة الرعاية والحفظ، وأفراد المجتمع أو الرعية إزاء من استرعوها من الرعاة والحكام أمانات وودائع يقع على عواتقهم حفظها ورعايتها، وصوت المواطن الذي يدلي به في استحقاق من الاستحقاقات، كيفما كان نوعه، أمانة ووديعة، المفروض أن يؤدي استعماله على الوجه المطلوب، وضمن بنية من المعطيات السليمة وفي ظل مشهد سياسي سليم وغير مختل، إلى حصول الصلاح والنماء، وإلى التطور الإيجابي في الأوضاع العامة للوطن، بينما يؤدي استعماله السيئ، إما بالإدلاء به زورا، أو بيعه لقاء ثمن يعتبرا بخسا وإن كان قوامه ملايين الدراهم، فما بالك إذا أعطي لقاء دراهم معدودات، في صفقة مهينة يفقد بها من يخونون أماناتهم وكرامتهم وإنسانيتهم.
إننا إذا تدبرنا أوضاعنا المؤلمة ومآسينا المتفاقمة على كل صعيد، وتخلفنا العام الذي يخترق عمق بنائنا الاجتماعي، لأدركنا عن يقين، أن أصل الأزمة إنما هو تضييع الأمانة بمفهومها الواسع، ومع ضياع الأمانة يضيع الأمن ويجتاح القلق والخوف كل مفاصل سفينة المجتمع، التي تتهددها الرياح الهوجاء من كل حدب وصوب. ولنا أن نتساءل عن حجم التربية على الأمانة التي يتلقاها أعضاء سفينة المجتمع في هذا البلد العزيز، في الأسر وفي التعليم والإعلام، بل وفي المشهد الاجتماعي والثقافي والسياسي العام، هل هو في المستوى الذي هو كفيل بحفظ أمن السفينة وضمان صلابة عودها وسلامة إبحارها وصحة اتجاهها؟ أم إنه من الضحالة بحيث يفتح المجال لخرق خطير تتسرب منه المياه للسفينة ويهددها بِشَرٍّ مستطير؟
فنحن إذا رجعنا إلى الحدث الذي يعيش المغاربة على إيقاعه وتداعياته، وهو حدث انتخابهم للمفروض أن يمثلوهم في المجالس الجماعية والجهوية في الرابع من شتنبر 2015، أمكننا أن نرصد جملة من الاختلالات تعود في صميمها إلى اختلال في إدراك الأمانة، أوفي نقص في التشبع بقيمة الأمانة واستصحاب جلالها وإشعاعها، ويمكننا أن نطرحها في صيغة تساؤلات:
هل تعكس نسبة الذين أدلوا بأصواتهم في الاستحقاق المذكور النصاب الكافي لشعب يستشعر مسؤولياته وخطورة الأمانة الملقاة على عاتقه في ظل عالم يموج بالمخاطر والتحديات؟
وهل يعتبر المقاطعون قوى حية تؤثر في مجرى التاريخ، أم قوى ميتة تفهم الأمانة والواجب بشكل مشوه مقلوب؟
وهل تعبر القوى السياسية المشاركة في الاستحقاق عن وجود حق راسخ في عمق الوطن؟ أم أن بعضها لا يعدو أن يكون أشباحا باهتة على هامش الوطن، وأن علتها المستعصية هي عيشها في الأوهام، وعدم وعيها بواقعها المنكود؟
هل تعبر الخريطة التي آل إليها الاستحقاق على مستوى الجماعات والجهات عن أمانة في حفظ أصوات الناخبين والمرشحين على حد سواء، وبالتالي في رعاية مستقبل الوطن وأمنه، أم أن إخلالا بمقتضيات الأمانة المقدسة قد اعترى تلك الخريطة بقدر من التشوهات، يقابله ويوازيه قدر مكافئ من الترديات والتراجعات؟
خلاصة القول أن خزان الأمة من الطاقة الذي لا ينضب معينه، هو تلقيح أفرادها ضد خيانة الأمانة، وإن أعظم وجه لتلك الخيانة هو توسيد الأمر إلى غير أهله، الذي حذر منه رسول الله [ في قوله: «إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة» وصدق الله تعالى القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(الأنفال:27 و28).
د. عبد المجيد بنمسعود