ربط الله تعالى بين المسجد الأقصى المبارك وبين المسجد الحرام ربطاً عقائدياً مصيرياً؛ فيه لفت نظر للمسلمين أن ضياع أحدهما ضياع للآخر، بل ضياع لمقدسات الإسلام جميعها، فارتبطت هذه المدينة المقدسة بالإسلام، وارتبط المسلمون بالقدس أكثر مما ارتبطوا بأية مدينة أخرى بعد مكة والمدينة، ذلك أنها تتمتع بمركز روحي وتوحيدي للأمة كلها وتتبوأ مكانة خاصة في عقيدتهم وفي تاريخهم وتراثهم.
فعلى مر التاريخ الإسلامي أولاها الخلفاء والقادة والأمة من ورائهم بالرعاية والحراسة، وبالتقديس والتكريم، فاستقرت في قلوبهم وضمائرهم، ورووها بدمائهم، وسيَّجُوها بأرواحهم، فما تعرضت مدينة القدس أو مسجدها الأقصى المبارك يوماً لغزو أو احتلال أو مساس إلاَّ هبت الأمة لتحريرها ورد العدوان عنها، فكانت من أبرز عوامل توحيد الأمة.
حفظ الله سبحانه وتعالى مدينة القدس وأرضها المباركة من كل الغزاة والمحتلين على مر التاريخ، ويقيننا الراسخ أن الله سبحانه وتعالى سيقيض لها من الأمة ومن أهلها المرابطين من يحميها ويحررها من جديد، فأهمية هذه المدينة وقدسيتها والمكانة العقائدية للمسجد الأقصى المبارك لدى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها جعلتها مطمعاً للغزاة، ويمثل الاحتلال الإسرائيلي الغاشم لها ولأرض فلسطين كلها أبشع صور غزوها على مر التاريخ، فهو يدنس المقدسات وينتهك الحرمات، ويشدد الإجراءات بمنع المصلين من دخول مدينتهم المقدسة والصلاة في مسجدهم الأقصى المبارك؛ في الوقت الذي يسمح فيه للمستوطنين والجماعات اليهودية بدخوله وتدنيسه، ويحيك المؤامرات بالليل والنهار ويرسم المخططات ويفرضها لتصبح أمراً واقعاً، ولعل آخرها محاولته فرض التقسيم الزماني والمكاني فيه بين المسلمين واليهود على غرار ما فعل بالحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل [ ، ويواصل الحفريات لتقويض بنيان المسجد وهدمه بهدف إقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، ويعمل على عزل المدينة المقدسة عن محيطها الفلسطيني والعربي والإسلامي بالجدار العنصري الفاصل، وبحزام من المغتصبات يحيط بها لتكون قراه المحصنة، فصدق فيهم قول الله تعالى {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}(الحشر 14).
ولأن المسلمين علموا ما تمثله مدينة القدس المباركة في عقيدتهم تعلقت بها قلوبهم، واعتبروا التخلي عنها تفريطاً في العقيدة لا يمكن أن يصبروا عليه لأنه طعنٌ لهم في عزتهم وكرامتهم ومظهرٌ لهوانهم. وقد شهد القرن الماضي في بدايته ثورة البراق سنة 1929م أول ثورة ضد اليهود الطامعين في القدس وفلسطين من أجل المسجد الأقصى المبارك، وشهد مطلع القرن الحالي في بدايته كذلك انتفاضة عام 2000م الثورة المتواصلة، على أرض الواقع ضد اليهود المحتلين للقدس وفلسطين من أجل المسجد الأقصى المبارك.
وكانت آيات القرآن الكريم عن المسجد الأقصى المبارك وأحاديث الرسول [، عن مكانته وفضل الصلاة فيه من المبشرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وبأنها بكل أرضها وترابها إسلامية الهوية، وبأن مسجدها الأقصى المبارك الذي صلى فيه رسل الله وأنبياؤه مؤتمين برسول الله محمد [ ليلة الإسراء والمعراج سيكون للمسلمين وحدهم يختصون به، وهذا ما كان؛ ففتحت القدس في العام الخامس عشر للهجرة.
والبداية كانت بالفتح العمري الذي كرّس إسلاميتها، ورسّخ طابعها الإسلامي العميق، فقد فتحت دون أن تراق فيها قطرة دم، واشترط بطريقها الأكبر أن يسلم مفاتيحها للخليفة نفسه، فخرج عمر من المدينة المنورة إلى القدس المباركة في رحلة تاريخية خالدة، وتسلم مفاتيحها دون سائر المدن المفتوحة، وعقد مع أهلها اتفاقية الأمن والسلام «العهدة العمرية» التي تمثل أساساً للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين في هذه الأرض المباركة، والتي يسير الطرفان على هداها في تعاملهم حتى اليوم، أمنهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وتعهد لهم بعد إصرارهم ألاَّ يساكنهم فيها أحد من اليهود، وشهد على وثيقتها عدد من الصحابة. وأقام فيها مسجداً حيث لم يكن فيها معبد ولا كنيس ولا هيكل؛ إذ لو وجد من ذلك شيئاً لحافظ عليه كما حافظ على كنيسة القيامة.
وعقب قرون من الاستقرار في ظل دولة الإسلام شهدت مدينة القدس أياماً عصيبة باحتلال الفرنجة قاربت قرناً من الزمان، عانى فيها المسلمون المرارة والبلاء والألم، فتولَّد لديهم الأمل والتلهف لاسترجاعها والجهاد في سبيل الله من أجل تحريرها، هذا بالإضافة إلى التعلق الروحي بها، فتحولت المدينة المقدسة بعد احتلالها إلى رمز الجهاد والتحرير.
نزح مسلمو القدس والمدن الشامية الأخرى الساحلية مع من نزحوا عن بلادهم تحت ضغط المذابح التي ارتكبها الفرنجة؛ فاستقبلهم نور الدين زنكي في دمشق وقرّب علماءهم، فثابروا على مساندة الجهاد وشاركوا في جيش نور الدين ومن بعده صلاح الدين الأيوبي الذي حررها من الفرنجة في ذكرى الإسراء والمعراج عام 583 للهجرة بعد موقعة حطين، بعد أن ذبح المحتلون الغاصبون أكثر من سبعين ألف مسلم في ساحات المسجد الأقصى المبارك، أما هو فلمّا تمكّن منهم استحضر قول الله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}(النحل 126)، لم ينتقم منهم؛ بل خيّرهم بين العودة من حيث أتوا أو البقاء في ظل رعاية الإسلام وسماحته؛ وهذا يثبت أن المسلمين على مر الأيام هم المؤهلون للسيادة على الأرض وحماية الإنسان والمقدسات.
وفي رمضان عام 658 للهجرة كانت معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز شاهداً آخر على قيام الأمة بفريضة تحرير بيت المقدس وتخليصها من براثن الأعداء، فقد تصدى كل من الظاهر بيبرس والمظفر قطز للغزو الوحشي التتري الذي اجتاح العالم الإسلامي إلى أن انهزموا شر هزيمة.
ثم تجددت الحملات الصليبية التي استولت على أجزاء أخرى من أرض فلسطين ، لكن تم تحريرها نهائياً في عام 690 للهجرة على يد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون الذي نال شرف إنهاء وجود الفرنجة في بلاد الشام وفلسطين والقضاء على كل معاقلهم فطويت بذلك صفحتهم.
ولنا أن نستذكر قصة منبر صلاح الدين في استنهاض وحدة الأمة لإنقاذ القدس من احتلال الفرنجة، فقد أمر نور الدين زنكي ببناء المنبر لوضعه في المسجد الأقصى المبارك يوم تحريره، فلما تم إنجازه بعد وفاة نور الدين حمله صلاح الدين وطاف به البلاد الإسلامية لجمع كلمتها وتوحيد صفها، وهذا ما كان؛ فقد تحررت القدس واكتملت فرحة الأمة بتطهير المسجد واسترداده من براثن احتلال الفرنجة، نظف المقدسيون والفاتحون المسجد الأقصى المبارك مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وأُعِيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغُسِلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك، ووضع المنبر في مكانه إلى جانب المحراب، ولما أذَّن المؤذنون للصلاة قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح، وصدر من السلطان الناصر المرسوم الصلاحي وهو في قبَّة الصخرة بأن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي خطيب الجمعة، فألقاها القاضي من على منبر صلاح الدين.
واليوم يتعرض المسجد الأسير لأخطار حقيقية داهمة؛ ويدنس يومياً ممن لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولا يراعون حرمة لدين أو تشريع أو قانون على مرأى ومسمع من العالم كله؛ بل على مرأى من الأمة التي أصابها الوهن فلا تحرك ساكناً، فازداد المعتدي الغاشم تمادياً في جرائمه ضد المسجد الأقصى المبارك وأرض الإسراء والمعراج، وضد أهلها المحاصرين الذين لا يجدون إلاَّ الثبات والصبر والمرابطة في أرضهم؛ ينوبون عمن تخلّوْا عن واجبهم ومسؤوليتهم نحوها، فالمسجد الأقصى المبارك للأمة كلها وليست للفلسطينيين وحدهم، فمن لك يا أرض الإسراء؟ ومن لك يا قدس ومن لأهلك ومن لأقصاكِ؟ هل سيأتيك الفاروق عمر من وراء الغيب؟ أم سيُبْعَثُ صلاح الدين من جديد؟
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران 200) .
د. تيسير التميمي
——-
(*) قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس