بعد عيد الأضحى المبارك بأيام ، وفي الأسبوع الثالث من شهر شتنبر الحالي، وقع حادث أليم تعرض له أحد الشباب اليافعين، ينتمي إلى حيّ من أحياء الهامش أدى إلى كسور على مستوى العمود الفقري والعنق، مما استوجب نقله إلى المستشفى الجامعي، وبعد تشخيص الحالة تبيّن أنها من الخطورة بمكان، وتحتاج إلى تدخل جراحي سريع مع توقعات نسبية بنجاح العملية. وجد الشاب نفسه بين محنتين كبيرتين:إحداهما إصابة شلّت حركته، والثانية واقعه الاجتماعي الهش، وليس له خيار سوى إجراء عملية جراحية بقيمة 15000.00 درهم، أصرّ الطبيب -للأسف- على تسديدها قبل الشروع في العملية، وإلا تُرِك الشاب المصاب لمعاناته المزدوجة . استطاع أحد المقربين توفير ثلث المصاريف، وبقي الثلثان، والحالة تزداد سوءا، ويشاء ربك أن يهيئ للشاب المصاب ما لم يكن في الحسبان، وما هي إلا ساعات معدودة، وبعد اتصالات عفوية مع بعض الناس ممن عُهِد فيهم الخير بالمدينة، جاء الخبر السار فساق الله تعالى للشاب المصاب المبلغَ المتبقيَ. وكانت الخطوة العاجلة لتجاوز مرحلة الخطر التعجيل بإجراء العملية الجراحية، وقد كان ما أراد الله جل وعلا. هذه واقعة من بين عشرات الوقائع التي تحدث على الهامش، وتتكرر بصمت في غفلة من بني البشر، لكنها تطرح أسئلة مجتمعية كبيرة، من أبرزها واقع الخدمات الصحية التي تعد من الأوراش الكبرى التي تشتغل عليها الدولة، ويصاحب هذه الأسئلةَ سؤالٌ أكبر منها: إنه واقع الخصاصة الاجتماعية التي تلازم المجتمع، فتأتي مثل هذه الوقائع لإعلان ما استتر، واستفزاز العقل والنظر.
إن الناظر في الواقع الصحي للمواطن الضعيف لا يعوزه الدليل، ليستخلص أن التعاطيَ مع الخِدْمات الصحية لا يزال محدود الجدوى، بالرغم من الجهود المبذولة لتمكين المواطن من الخدمات الصحية، باعتبارها حقا يكفله الشرع ويضمنه الدستور. ولعل ما يحُدّ من بلوغ الطموح، هو غبشٌ في رؤية طبيعة الواقع الاجتماعي بإشكالاته العميقة وإكراهاته الموضوعية، ومن ضمنها واقع الفقر الذي يشمل عددا من الأسر المغربية، وكذا التكلفة الباهضة للفاتورة الصحية، إضافة إلى اختلال البنية الصحية المتمثلة في مواردها البشرية: كمّا وعددا، التزاما ومسؤولية، ومرافِقها الصحية: بناياتٍ ومؤسساتٍ ، بالإضافة إلى ضمور المجتمع المدني، الذي ينبغي أن يشكل ثابتا من ثوابت الرؤية الاجتماعية باعتباره وسيطا بين الدولة والمجتمع.
إن الحاجة الماسة لرؤية استراتيجية للواقع الصحي، تترجمها أسئلة مُلحّة على الدولة، وعلى رجال الأعمال الذين يراكمون الثروات، كما تسائل المجتمع المدني بهيئاته المختلفة، خاصة منها ذات الاهتمام بالمجال الاجتماعي، بالإضافة إلى مؤسسات التضامن والتكافل ذات الصلة بقطاعي التشغيل والصحة. ولعل هذا الواقع الاجتماعي بتراكماته السابقة كان الحافز لخروج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى الوجود قبل اثني عشر عاما، هذه المؤسسة التي انبرت لمعالجة الاختلالات الاجتماعية، من خلال مشاريعها التنموية، ومنها الصحية، ومن ثَمّ تعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الداعم الرئيس لمؤسسات الدولة، لكنها في الوقت ذاته توجِّه نقدا ضمنيا صامتا لكل السياسات الاجتماعية السابقة. وإذا كانت عناصر الرؤية الصحية المرجوة متعددة الأبعاد والأوجه،فإن الإشكال الأساس الذي يحول دون الاستفادة من خدمات صحية عادلة ومستمرة، هو ضعف الدخل المادي للأسر خاصة حين تتراكم الحاجات الضرورية في مجتمع مغربي تصل فيه نسبة الفقر إلى 6.2% بحسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2014. ولما كان من واجب الدولة –في إطار منظورها الاقتصادي وتوازناتها المالية وسياساتها الاجتماعية- أن تضطلع بمسؤولية الخدمات الصحية فإن سقف الإنجاز يظل -إلى جانب البرامج المتوقعة- رهينا بعامل الزمن من جهة، ومن جهة أخرى يظل في حاجة إلى دعم شعبي، مما يفرض نوعا من التآزر الاجتماعي لتمكين المواطن من الحد الأدنى من الخدمات الصحية، وهذه مسؤولية الدولة ومؤسساتها، ورجال الأعمال باستثماراتهم، والمجتمع بهيئاته المدنية، وتحديداً المجال الصحي.
من هنا نهمس في آذان محبي هذا الوطن، من أجل تجاوب مدني من خلال مبادرات إنسانية عقلانية وعلمية، بمنأى عن الارتجالية وردّ الفعل اللحظي،لتجاوز شُحّ الخدمات الصحية وضعفها، لتقاسم الأدوار، والتعبير من خلال هذه المبادرات عن صدق الانتماء للوطن وتجسيد المواطنة في أسمى تجلياتها، ومن أهمها:خدمة المجتمع من مدخل الصحة والعناية بالمرضى ذوي الحاجة، لتجفيف منابع اليأس في النفوس، وتمكينهم من لحظة سعادةٍ قد تكون عابرة، لعلها تعيد البسمة، ومعها الأملُ بأن هذا الوطن الذي نعيش فيه جميعا، لا يهمل أبناءه ، وإنْ نسيهم في غفلة من الزمان، فإنه لن ينساهم إلى الأبد، ما دام في الوطن أناس نذروا أنفسهم لخدمة الناس، فاستأهلوا أن يحظوا بمحبة الله، بأعمال يحبها الله عز وجل، جامعُها: نفع الناس، فقد روى الطبراني عن عبد الله بن عمر ] أن النبي [ قال:»أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل : سرورٌ تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُرْبة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأَن أمشيَ مع أخي المسلم في حاجة ،أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرا… ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يُثبِتَها له، أثبَتَ الله تعالى قَـدَمَه يوم تزِلُّ الأقدام ….» وصدق الحبيب.
د .كمال الدين رحموني