د .كمال الدين رحموني
كثيرة هي الظواهر السلبية التي تفشو في المجتمع، ويتعارفها الناس، وقد تظل شيئا معتادا حين تغدو حبيسة الرَّدْهات والأقبية، ولكن حين ترفع عقيرتها وتُطل برأسها وتُلقي بثقلها المعنوي، فيتجرّأ منظرّوها ومُقيموها على إحلالها دار المـُقامة بين الناس، بالرغم من موقف المجتمع منها، هنا تغدو هذه الظواهر عنوانا صريحا لاختبار جوهر القيم الاجتماعية وسبر مكنونها. وحين يقع التطبيع مع هذه الظواهر السلبية تصبح المساءلة لازمة ومُلحّة لطبيعة العلاقة الرابطة بينها وبين قيم المجتمع المغربي الذي يستمد قيمه من الدين. إن الأخطر في هذه الظواهر السلبية أن تنتقل من مرحلة التنظير التجريدي ،ثم التجريب النخبوي إلى مرحلة التطبيع الاجتماعي، حيث«يتعبّأ» المجتمع بمفهومه الواسع- مؤسساتٍ وأفرادًا ووسائلَ إعلامٍ ومنظومةَ تربية وتعليم وغيرها – للتكيُّف مع هذه الظواهر الرديئة التي تستند إلى ثقافة يُراد لها أن تهدم جُدران الحصن الثقافي للمجتمع. وتتعدد هذه المظاهر التي تتدثَّر بدعاوى واهية، منها ما هو مفاهيمي صرف، كمفاهيم الحرية الشخصية والفن والحداثة وحقوق الإنسان والمساواة، ومنها ما هو إجرائي تنزيلي، الغرضُ منه تتبُّع سَنَن حضارة الغرب التي تُمثّل القبلةَ التي يُولّي بعضُ النُّخَب المتغرِّبة وجوهَهم نحوها، وبين هذين الاتجاهيْن المُغرضيـْن يتأرجح قطاع عريض من العوام، ونخبة من علية القوم لتقمُّص الأدوار، والاستجابة لمخطط الإلهاء عن قضايا الإنسان الحقيقية الأساسية المتمثلة في اكتساب الوعي وربح رهان التنمية والتمكن من النضج الأخلاقي. من هنا يبرز المدخل الأخلاقي باعتباره الرافعة الأساس للإجهاز على القيم الاجتماعية، أو ما تبقّى منها، ولذلك يلاحَظ هذا الانحدار السريع والضمور الحثيث لمنظومة القيم الذي يبرز في بعض المواسم – التي تدّعي الاحتفاء بتعدد الثقافات- ليُطلّ بوجهه القبيح، إمعانا في الاستهتار بقيم المجتمع التي ظلت تمثل السقف المحفوظ في البيئة المغربية. ولعل تسارع هذه الدركات والانحدارات الأخلاقية التي عمّت بلواها في الأسابيع الأخيرة المغرب والمتجليةِ في بعض السلوكات المشينة التي أمعنت في الجراءة والمجاهرة نكاية بقيم المغاربة، ينذر ببلوغ الحد الأقصى مما يستوجب عموم العقاب الرباني، مصداقا لحديث النبي الكريم [ حين تساءلت زوجه زينب!: أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخَبَث»(البخاري ومسلم). وقد فسر جمهور العلماء الخبث بالفسوق، وقال النووي: «ومعنى الحديث: إن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون»(شرح النووي على مسلم). والفسق هو الخروج عن الشيء أو تجاوز القصد، وهو أيضا الخروج عن الطاعة، ويسمى أيضا فجورا.
وفي رواية أخرى أن أم سلمة رضي الله عنها دخل عليها رسول الله [ كأنه غضبان، فاستترت بكُمّ درعها ، فتكلّم بكلام لم تفهمه فقال: «إن السوء إذا فشا في الأرض فلم يُتَناهَ عنه، أرسل الله بأسه على أهل الأرض» (التمهيد ابن عبد البر).
فماذا بقي بعد هذا الغلو في إشاعة الفحشاء في المجتمع إلى درجة أن أصبحت الفواحش تقتحم بيوت الناس بلا استئذان، وتعكر صفو الحياء الذي تربى عليه الجيل بعد الجيل؟ وأيُّ وصف يناسب هذه الموبقات التي تعتدي على حرمات الناس الذين يبذلون أموالهم لإعلام يُفترَض أن يكون أداة لإشاعة القيم النبيلة لا أداة لإشاعة الرذيلة؟ لقد ظلت إشاعة المنكر في وقت بعيد يبوء بحملها أفراد متسترون لا يجرؤون على المجاهرة بإفكهم لحساسية ما يعرِضون، ولعلمهم أن السياق الاجتماعي العام يأبى ذلك، فكيف تطورت منظومة الرذيلة في زمن قياسي إلى هذا المستوى الخطير تجاوزاً لكل الحدود الأخلاقية والقانونية التي تجتمع على سقف محفوظ من النواظم المراعية للقيم الحضارية المغربية؟ وهل من المشروع شرعا، والواجب أخلاقًا، بل هل من اللائق ذوقـاً أن توصم هذه الترهات بكونها فنًا أو حريةَ تعبير أو مواكبةً للتحضّر البشري الذي اخترق كل الحدود أمام ما يريده الإنسان ويقترفه؟ أهذه هي الحضارة أم هي «الحدارة» - من الانحدار- والسقوط في امتحان القيم والأخلاق؟ أهكذا تُسترخَص القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة على يد حفنة من المرضى الذين هم في أمس الحاجة إلى جلسات سريرية للتأهيل النفسي حتى يُمَكَّنوا مما حُرموا منه من أبجديات التربية السوية، ويتعافوا مما أصابهم من لوثات التغريب التي تسكن وعيهم؟ ألا نخشى أن يعمّ المجتمعَ -بفعل هؤلاء-ما أصاب مَن سَبَق من عصاة الأمم السابقة الذين ظلوا يتصدون للدعوات الفاضلة بالمرصاد، كما قصّ القرآن الكريم أخبارهم حين اختل نظام القيم لديهم وتواطؤوا على المنكر، وامتنع الصالحون عن التغيير والإنكار، ولذلك حين عمّت الفاحشة في قوم لوط حتى أعلنوا بها، تحرّك وازع الإنكار والإنذار لدى نبي الله لوط ∍وانتفض قائلا لقومه: {أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدّرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين}(الأعراف : 54-58 ). وفي موضع آخر وصفٌ دقيق لحالة البهيمية لهؤلاء المرضى وذلك في قوله تعالى: {وجاءه قومه يُهْرَعون إليه ومن قبلُ كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزونِ في ضيفي أليس منكم رجل رشيد}(هود : 78) كلمة لوط ∍دعوة ندية حانية إلى الفضيلة، بِلفْت الأنظار إلى المسلك الأخلاقي والفطرة السوية، لكن حين يغيب الرشد، تنطمس السريرة، ويعتل الفهم، ويقع التمرد على القوانين الإلهية، تعمى القلوب التي في الصدور، ولذلك حين تُستنَفَد سبل الدعوة للاهتداء والاستقامة يأتي الجزاء السنني لردع التمرد في الإنسان، ومن ثم يحلّ العقاب الإلهي، وهو ما حدثنا عنه القرآن الكريم في قوله تعالى : {فلمّا جاء أمرُنا جعلْنا عاليَها سافلَها وأمطْرَنا عليها حجارةً من سجّيل منضودٍ مسوَّمَةً عند ربّك وما هي من الظالمين ببعيد}(هود : 82-83). فهل ننتظر إلى أن يأتينا عذاب الله جل وعلا، أم نهبّ للانتصار لقيمنا الأخلاقية والمنافحة عنها بالنصيحة والحكمة والموعظة الحسنة، أداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به في قوله تعالى:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران104). وهل نضع في الحسبان عاقبة التقاعس عن النهي عن المنكر وقد قال أبو بكر ] : «يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها: {عليكم أنفسكم لا يضُرُّكم مَنْ ضلَّ إذا اهتديتم}، وإنا سمعنا النبي [ يقـــــول : «إن النــــــاس إذا رأوا الظـــــــالم فلــم يأخذوا على يديه أوشك أن يَعمَّهم الله بعقاب وإني سمعت رسول اللهِ [ يقول: ما من قوم يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيـروا إلا يـــوشك أن يَعُمَّهم الله منه بعقاب»(سنن أبي داود).