حضرت منذ أزيد من عشرة أعوام مخيما في بريطانيا، حضره عدد من الأساتذة والمفكرين من جنوب إفريقيا وكندا وبريطانيا، بالإضافة إلى بعض العرب. كما حضره عدد من المنشدين المسلمين من غير العرب، وكان من بينهم الكندي داود وارنزبي علي ، والآزري سامي يوسف، وفرقة من سود أمريكا، وأخرى من ماليزيا. وكنت أثناء الإنشاد أقارن بين كلمات الأناشيد الإسلامية المنتشرة في العالم العربي، وهذا النوع الجديد من الإنشاد. وهالني الفرق. كانت الأناشيد العربية تمثل ضربا من التكرار الذي لا يكاد يحرك وجدان السامع إلا قليلا، لا لرتابة اللحن فقط، ولكن لسطحية الكلمات. أما الأناشيد الغربية فكنت كأنك تعقد مقارنة بين الجانب المشرق من الحضارة الغربية السائدة الآن، على ظلماتها، بعد تشربها نفحة إيمانية عميقة، والحضارة العربية التي فقدت موقع الريادة، وهي تسعى جاهدة متلمسة طريق النهوض من جديد.
هذا الشعور انتابني وأنا أقارن بين رمضانيات دانيال مور ورمضانيات كثير من الشعراء العرب المحدثين والمعاصرين، ولا أستثني أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي قال في خروج عن توقير الشهر الحرام:
رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتــاق
وأفتح مجلة وصلتني مؤخرا، لأقرأ قصيدة عن رمضان، أولها:
الصوم يا قـــــــــــــوم جنّة
من كل ما هو فتنــــة
فرض مـــــــن (الله) لكن
فضل علينا ومنّـــــــــــــة
من صامـــه حاز فـــوزا
وهل لنـــا غير جنّــــــة؟
وقد تذكرت وأنا أقرأ هذه القصيدة قصة وقعت لعبد الملك بن مروان مع الشاعر الراعي النميري، فلما قال الشاعر:
أخليفة الرحمن إنا معشـــــــــــــر
حنفاء نسجد بكرة وأصيــــلا
عرب نرى لله في أموالنــــــــــــــا
حق الزكاة مفصلا تفصيــــلا
قال الخليفة: ليس هذا شعرا، هذا شرح إسلام وقراءة آية.
وتعالوا بنا إلى مائدة دانييل مور الرمضانية، ولنستمع إلى قصيدة عنوانه: (ولماذا الصوم)، يقول فيها:
لما خلق الله العقل استحضره
ثم سأله أن يسمو فسما
وسأله أن يهوي فهوى
وسأله أن ينأى فنأى
وسأله أن يدنو فدنا
* * *
لما خلق الله النفس استحضرها
ثم سألها أن تسمو فعصت
وسألها أن تهوي فعصت
وسألها أن تنأى فعصت
وسألها أن تدنو فعصت
* * *
ألقاها في النار
وعاقبها عشرة آلاف سنة
ثم استحضرها
وسألها أن تسمو فعصت
وسألها أن تهوي فعصت
وسألها أن تنأى فعصت
وسألها أن تدنو فعصت
* * *
وكذلك ألقاها في النار
وعاقبها عشرة آلاف أخرى
ثم استحضرها
وسألها أن تسمو فعصت
وسألها أن تهوي فعصت
وسألها أن تنأى فعصت
وسألها أن تدنو فعصت
* * *
وأخيراً، فرض الله الصوم
ثم استحضرها
وسألها أن تسمو فارتجفت.. وسمت
وسألها أن تهوي فارتجفت.. وهوت
وسألها أن تنأى فارتجفت.. ونأت
وسألها أن تدنو فارتجفت.. ودنت
بالصوم انكسرت شكوتها
صارت أمَة الله.
يقول الجاحظ إن الشعر لا يترجم، لأنه إذا ترجم فقد ذلك المعجز، الذي هو الوزن. وهذا صحيح، فمن الصعب على المترجم ــ مهما أوتي من مقدرة وبراعة ــ أن ينقل إلينا النص الشعري بأبعاده الموسيقية، وإيحاءاته المتعددة. إلا أن هذا لا يجعلنا نقول باستحالة ترجمة الشعر، وإلا ضاعت علينا روائع بندار وهومير وشكسبير وكوته وبوشكين ومحمد عاكف ومحمد إقبال وطاغور وطفيل مدني وسعدي وحافظ الشيرازيين ونيرودا ولوركا وكمال ثريا وآنا أحمدوفا ورسول حمزاتوف وأوكتافيو باث وسواهم من عمالقة الشعر العالمي. ذلك بأن جمرة الشعر تظل متقدة في كيان النص، حتى ولو ترجم، وهو بالتأكيد سيفقد ملامح عبقرية اللسان الذي به نظم، إلا أن الروح تتجاوز القوالب الشكلية لتستقر في وجدان القارئ مهما كانت لغته، ومهما كان فكره.
وهكذا فنحن نطرب للنص الذي أوردناه شاهدا لدانييل مور، كما لا نطرب لشعر عربي في الموضوع نفسه، إذا خلا من جمرة الروح الشعري.
إن الشاعر لم يعدد لنا فضائل رمضان بطريقة تقليدية مما يعرفه حتى طلاب المدارس، ولكنه ابتدع شيئا جديدا، مستلهما القرآن الكريم وأحاديث رسول الله [. فالله تعالى يقول عن فريضة الصوم في كتابه العزيز: {لعلكم تتقون}، ويقول في الحديث القدسي: «يدع طعامه وشاربه وشهوته لأجلي…»، وفي حديث آخر: «خلق الله العقل فقال له اقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر…»إلى آخر الحديث، ويقول الرسول عليه السلام: «الصوم جنة»، ويأتي الشاعر ليتمثل كل ذلك ويمتص رحيقه، ويستنبط منه هذه الصورة الجميلة التي بنى عليها نصه الشعري. وهو كما نرى مخالف في حديثه عن رمضان لكل القصائد المعهودة، وتلك فضيلة أخرى من فضيلة الشاعر الملهم.
ورمضان ليس مقترنا بالصوم فقط، بل هو مقترن أيضا بالقرآن الكريم، ففيه أنزل القرآن، وفيه كان جبريل يدارس النبي [ القرآن، وفيه التراويح التي يتلى فيها القرآن، فلذلك كان للقرآن نصيب من شعر دانييل مور. ولنتأمل هذا النص، وعنوانه:
الترتيل.
عند تلاوة القرآن
جهراً، في صلاة الصبح
أدرك أن هذا الحلق
لم يخلق سوى لقراءة القرآن…
* * *
أسمع رجعه في القلب
مندفعاً كجوف النبع.
أسمع رجعه
في أحلك الأعماق من جسدي
* * *
وتحضرني ملامح هذه الألحان
فأعرف كيف صاغ الله
حول نشيدها الإنسان
كمثل جِبِلة خلقت من الإحسان
فزادك وجهها حسنا
برجع تلاوة السور.
* * *
لكم أحكمت يا رباه
خلق جوارح الإنسان للقرآن
فصار غشاءه الحي، وكم يحلو
لهذا الثغر، بعد الفجر
إنشاد بديع الشعر.
لا يغيب عنا أن القارئ المتمرس بالشعر يلحظ كيف أن منير العكش اختار أن يترجم النص موزونا، ذلك بأنه شاعر أصلا، ويعلم ما للإيقاع من أهمية في بعث الأحاسيس، وقد اختار تفعيلة (مفاعلتن) التي هي تفعيلة الوافر، والتي تقبل التحول إلى (مفاعيلن) التي هي تفعيلة الهزج، فمزج مزجا رائقا بين التفعيلتين، ثم أعطى القافية حقها، ولوّن فيها، ما بين النون والراء، فأعطانا سوناتا مؤثرة، زادت المعاني الجميلة جمالا. وأما معاني القصيدة فيستنبطها الشاعر من قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا}، فكأن الله عز وجل لم يخلق الصوت الحسن إلا لترتيل القرآن. ثم إنه استثمر قول الله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهودا). هذا الامتصاص البديع للنص القرآني أضفى بهاء على النص الشعري، فإذا تلاوة القرآن بعد الفجر تفتح النفس لإنشاد بديع الشعر.
يلتقطها د. حسن الأمراني