أيها الإخوة الأعزاء قراء جريدة المحجة الغراء : يطيب لنا ويسرنا غاية السرور أن نتقدم إليكم وإلى كل مسلم في أصقاع الأرض من أبناء هذه الأمة المسلمة المجيدة بأحر تهانينا وأعز متمنياتنا بحلول شهر رمضان المبارك علينا . شهر القرآن والذكر والطهر والعفاف والصبر والخير، شهر تفتح له قلوب المومنين وتنشرح صدورهم وتعم الفرحة كبارهم وصغارهم، وتغشى البسمة وجوههم، تنشط أرواحهم وأجسامهم للعبادة الخالصة والطاعة الكاملة، ننتظره جميعا بشوق ولهفة مرة كل سنة لنؤدي فيه ركنا عظيم الشأن من بين أركان الإسلام الخمسة. ركن الصيام الذي تتجلى فيه روح الوحدة بين المسلمين في أعلى صورها وأجلى مظاهرها والذي ترتقي فيه نفس المؤمن إلى درجة عليا من التعلق بالله سبحانه والإخلاص له ويتحقق فيه الإحسان تحققا متميزا يظهر فيه بجلاء ووضوح معنى قول الرسول [ : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ففي الصيام يشهد كل منا على نفسه شهادة في السر والخفاء أنه صائم وأنه هو المسؤول عن مراقبة نفسه في الإتيان بطاعته وعبادته على الوجه المأمور به شرعا يحافظ على صومه، ليس هناك من مطلع عليه ولا مراقب له إلا الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى.
وإننا ونحن نؤدي شعائر الصوم ممسكين عن الطعام والشراب والجماع قد بلغ منا اليقين درجة عالية بأن الله سبحانه لا يريد بنا إلا ما فيه خيرنا ومنفعتنا وفلاحنا وفوزنا في الدنيا والآخرة وأنه لا يريد لنا تعبا كبيرا ولا مشقة مهلكة وإنما ذلك أسلوب من التربية الإلهية التي تقوم على سداد حكمه وشرف مقاصده.
ومن مقاصد شرع الله أن يراعى في التكاليف ما يبني الفرد والمجتمع بناء قوة وعزة وكرامة وشهامة وإنتاج، لا بناء ضعف وإهانة وذل وعذاب. فإذا بدا لبعض من لا يدركون هذه المقاصد العظيمة ولا يعملون لتحقيقها في واقع حياتهم خلال رمضان، أن الصوم يتعب أو يضعف قوى الإنسان فما ذلك إلا نزغ ووسوسة من الشيطان الذي يتربص بالإنسان وخصوصا بالمؤمنين ليفسد عليهم إيمانهم وصومهم وعبادتهم ويثير الشكوك في يقينهم بدينهم وفي طاعتهم لربهم كما فعل بأبيهم آدم \، أتاه النهي من الله جل وعلا بألا يَقْرَب هو وزوجته الشجرةَ وألا يأكلا منها، فوسوس إليه ومعه زوجته فأغواه وزين له المعصية فزل آدم وغوى {فنسي ولم نجد له عزما}، وهذا درس ينبغي أن يستحضره كل مسلم في ضميره الحي أثناء رمضان.
إن المسلم الواعي هو الذي يستفيد من الصوم من عدة جهات:
> أولها تزكية روحه بتوثيق العلاقة بالله سبحانه بالإيمان الصادق والتوبة النصوح والعبادة والطاعة وكثرة الإقبال على القرآن تلاوة ومدارسة، والنهل من حديث رسول الله [ والتوسل بالأدعية المأثورة، والإتيان بأعمال البر بمختلف مظاهرها التي تجعل المؤمن فاعلا في الحياة، على صلة حسنة بالآباء والأبناء والأقرباء وعامة المسلمين.
> وثانيها تزكية الجسم بتطهيره وتنقية أجهزته من بعض ما يكون قد تراكم فيها من الخبائث الضارة.
فيجمع ذلك بين نقاء وصفاء الروح وإخلاص العبادة وبين صفاء وطهارة الجسد الذي هو مطية العبادة وجهازها؛ وفي الأثر أن الصوم زكاة الجسد. فكما أن زكاة المال طهارة للمال وتنمية وإثراء له وصون له من النقصان والضياع، فكذلك الصوم تطهير للجسد وتقوية له وحفظ له من الضعف والأمراض.
ومن الحكم الجليلة التي تنبه إليها بعض العارفين الذين يحرصون على ترقية منازلهم في الإيمان وفي القرب من الله سبحانه قد نظروا إلى الصوم نظرهم إلى الخالق سبحانه فاعتبروا أن الصوم عن الطعام و الشراب والشهوة من أخلاق الله جل وعلا. فالله غني غنى مطلقا لا يحتاج إلى طعام أو شراب أو أي لذة أو شهوة لأنه هو الذي يخلق كل ذلك، فهو غني عن جميع ما يخلق وهو سبحانه يتيح للمؤمنين الفرصة ليتخلقوا بأخلاقه لمدة معينة وفي حدود مبينة، ليثيبهم على ذلك ولترتفع منزلتهم عنده ولينفذوا دعوته إليهم ويؤدوا ما فرضه وكتبه عليهم ليكون كل ذلك من جملة ما ييسر عليهم الفوز بالنعيم و الجنة «إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل بعدهم أحد».
ومن الحكم العظيمة التي يمكن أن يستنتجها المؤمن الذي يصوم رمضان برضا وطواعية وشوق وفرح وهو يتدبر في الحكم من الصوم أن الله سبحانه كرما منه وفضلا وتشريفا للإنسان وتمييزا له خلقه خلقا يحتاج فيه إلى الأكل والشرب، نعمة عظيمة يتمتع فيها بألوان من طعام وشراب كل له مذاقه المتميز . فلو فرضنا أن الله سبحانه خلق الإنسان خلقا مغايرا لا يحتاج فيه إلى طعام أو شراب كالملائكة ولا يشتهي شيئا لكان الإنسان قد حرم هذه النعم التي يتمتع ويتلذذ بها من أنواع الأكل والشراب والشهوات ومنها ما لها علاقة بالجماع. فلكي يعرف الإنسان قيمة هذه النعم ومدى تعلقه بها ورغبته في تعاطيها أُمِر بالإمساك عنها مدة من الزمان حتى يدرك فضل الله تعالى عليه بأن خلقه خلقا عجيبا يختلف عن كل المخلوقات فيحمده سبحانه ويشكره بهذه العباد «عبادة الصوم».
< أيها الإخوة الأفاضل
نحن نعيش أجواء رمضان الإيمانية والدينية في حياتنا العامة في أماكن العمل وفي الشارع وفي البيت، الأجواء التي نستظل فيها بالقرٱن والسنة النبوية المطهرة، أجواء الطاعة والإنابة لله عز وجل والصبر والجد والنفع وتحقيق الغايات والمقاصد الهادفة إلى بناء الفرد والمجتمع بناء سليما صحيحا، ليست الأجواء التي يخيم عليها الإهمال والغش والخداع والمهاترة والرشوة «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
ونحن نعلم جميعا أن الدين عندما أمر بالصيام في رمضان نزهه عن كل ما يمكن أن يفسده أو يحدث فيه تشويها أو يقلب الجد والصبر إلى هزل وفكاهة ومرح وراحة ونوم عميق طويل، قد وضع له سياجا من الأخلاق وحدودا من العبادات والطاعات ينبغي لنا الحرص على الإتيان بها على الوجه الصحيح، تصوننا وتجعلنا نندمج مع إخوتنا المؤمنين في الصفوف الجماعية للإيمان بنية المشاركة الروحية والوجدانية والاجتماعية، صفوف العابدين الطائعين التائبين المتضرعين السائلين، تظلنا الرحمة والمحبة والتعاون على البر والتقوى، نرى أن وحدتنا تقوم في أسسها على الدين والشرع والقرآن المجيد يملأ قلوبنا، لا ننظر إلى طائفية أو حزبية أو عنصرية أو أي مذهب من صنع البشر الذين يبحثون عن مجرد المصالح والامتيازات الدنيوية.
ولنجتمع مع الأهل والأحباب على الطعام دون إسراف في الأكل حتى لا يتحقق فينا القول: «إننا نصوم في كل أشهر السنة ونأكل ونشبع في رمضان». ولنغتنم فرص الاستفادة من معاشرة العلماء العاملين ومصاحبة ذوي الفضل والصالحين من العباد الأخيار الأطهار الأبرار والصلاة معهم، ولنرفع معهم أكف الضراعة إلى العلي القدير أن يحفظنا ويحفظ أمة الإسلام، فهم القوم لا يشقى معهم جليسهم، فلعل الدعاء يدفع عن هذه الأمة الفتنة والبلاء {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}.
< أيها الآباء الكرام
علينا أن نتذكر جميعا كيف كان آباؤنا رغبة منهم ومحبة في رمضان ويقينا منهم بفوائده وحكمه الجليلة الشأن، جرت عادتهم أن يهيئوا أبناءهم وهم صغار لتعظيم هذا الشهر واستقباله بالحفاوة والفرح فيتسابق الأبناء إلى مشاركة آبائهم في صيام بعض الأيام قبل أن يصبح الصوم واجبا عليهم. ويرافقون آباءهم في الصلاة إلى المساجد فيحضرون معهم صلاة التراويح بنشاط وهمة. هذه كانت عادة المسلمين وينبغي أن تستمر بوضوح في واقعنا، بأن نرغبهم بالقدوة الحسنة وبالبيان والإرشاد والتوعية لكي يصبحوا متعودين من تلقاء أنفسهم مدركين أن التقرب إلى الله سبحانه بالطاعة والعبادة أولى وأجدى من الجلوس في المقاهي وأمام التلفاز بما يقدمه من مشاهد مغرية وملهية عن الغايات والمقاصد الحميدة لتطبيق شرع الله تعالى. فهل تريدون أيها الآباء أن تتركوا أبناءكم يقادون إلى المهالك فكريا وعقديا وتربويا وأنتم ستسألون عن ذلك أمام الله سبحانه فليس لكم من جواب إلا أنكم شغلتكم الدنيا عن الآخرة؟!
< ويا شباب أمتنا الحبيبة
إذا كان الإنسان المقبل على الدنيا يبذل جهدا كبيرا متواصلا تقل فيه الراحة ويكثر التعب تعلقا بها ورغبة فيها ويضرب المثل اليوم بالإنسان الياباني، فكيف بنا نحن أمة الإسلام الذي أخذنا من مبادئه الأصيلة الجمع بين التمتع بنعم الله الكريم الدنيوية والعمل على تنظيم الاستفادة منها وجعلها مطية ووسيلة إلى غاية كبرى، إلى انتظار تمتع أرقى وأوسع وأنفع وأبقى وهو نعيم الآخرة نعيم جنات الخلود. فالصيام التعب فيه طريق إلى التقوى، والتقوى طريق إلى النعيم.
إذا كان المآل لقاء ليلى
فما لاقيت من تعب نعيم
ولنعلم جميعا أن الله سبحانه لا يناله منا تعبنا ولا جوعنا ولا عطشنا ولا شهوتنا لكنه ينال التقوى منا: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.