لعل عددا من القراء الكرام يتذكر معي تلك الرواية الشائقة الهادفة ” رجال في الشمس ” لغسان كنفاني؛ التي كانت مقررة عندنا في الباكالوريا، والتي يرصد فيها محاولة ثلاثة فلسطينيين الهرب إلى الكويت، (أسعد، ومروان، وأبو قيس) في خزان شاحنة ليلقوا حتفهم اختناقا داخل الخزان، فيعمد المسئول عن تهريبهم إلى رمي جثثههم عند كومة القمامة، ويستخرج النقود من جيوب الجثث، وينتزع ساعة مروان. وأذكر أننا ـ ونحن ندرس الرواية ـ كنا وقفنا عند انتزاع الساعة، وما له من رمزية خاصة، ودلالات عميقة في الرواية؛ منها إلغاء عامل الزمن في مسار القضية الفلسطينية والعربية عموما، وأن القضية ستبقى تائهة لا يعرف لها مدى ولا منتهى، وأن العربي غدا فاقدا البوصلة الموجهة لاهتماماته وقضاياه المصيرية، والساعة الضابطة لزمانه الذي هو مجال نضاله وكفاحه؛ لاسترجاع حقوقه المسلوبة، والدفاع عن قضاياه المشروعة…، إلى غير ذلك من الإيحاءات الرمزية والدلالات الروائية التي لا يسعها المقام.
ما ذكرني بتلكم الرواية، هو حالة ووضع ساعة -في ساحة بمدينتي- تعلو برجا صغيرا، ترتسم على واجهاته الأربع. ومذ قدمت إلى هذه المدينة وعقارب تلكم الساعة رابضة مكانها، فما وجدت من يخلصها من ربوضها وجثومها، أو يزيلها بالمرة؛ حتى لا تبقى الأعناق تشرئب إليها فتعود حسيرة لما تدرك أنها مصابة بشلل أعجزها عن الدوران، ولما تجد أن لكل واجهة من واجهات البرج الأربع توقيت خاص بها. وفي كل مرة أجدني أحدث نفسي عن هذا التوقف الذي طال أمده، وهذه اللامبلاة التي تجاوزت حدودها بهذه المسكينة، وعن ما للأمر من علاقة بالوظيفة الأساسية لهذه الآلة؛ وهو عدها الثواني والدقائق والساعات والزمن للناس، فأقول: ما بال هؤلاء الناس -مسؤولين وغير مسؤولين- غير مبالين بتوقف هذه الساعة؛ هل توقفت حياتهم وتجمد زمانهم؟.
وغير بعيد عن تلك الساحة، ساقني القدر إلى محطة للقطار؛ فشخصت ببصري نحو ساعة المحطة؛ أتبين ما إذا كان القطار على وشك الوصول، وياللمفاجأة المؤسفة؛ الساعة متوقفة ـ أيضا ـ وعقاربها ملازمة مكانا لا تبرح عنه أبداً. فطفقت أتأمل مصاب الساعتين -ساعة الساحة وساعة المحطة- وما يتقاسمانه من هم الإهمال وحر اللامبلاة، وبينا أنا كذلك؛ إذا بصوت يخترق الجو منبها المسافرين: (سيداتي وسادتي: انتباه من فضلكم!! القطار القادم من ….. والمتوجه إلى…..سيتأخر عن موعده بـأربعين دقيقة). ساد غضب وانفعال لحظيين، وخاض الناس في جلبة لم تدم، أعيد الإعلان -وهذه المرة بالفرن
سية- سكن الناس وعادوا إلى أحاديثهم، غير مبالين بأربعين دقيقة خصمت من عمرهم، ودون أن يكون منهم ولو استفسار، بله احتجاج أو تسجيل شكاوى أو ما إلى ذلك…. لحظتها أدركت سر استمرار عطل الساعة والتماطل في إصلاحها، وعلاقته بانعدام أثر فاعل لتأخر القطار في نفوس الناس.
توقف الساعات عن الدوران غدا الشبح المخيف الذي أجده أمامي، في عدد من الأماكن التي أقصدها، وهذه المرة حينما قصدت مؤسسة تعليمية؛ إذ بمجرد ما توسطت فناءها الفسيح، لاحت لي أعلى أحد جدرانها المزخرفة ساعةٌ، الله وحده العليم بالوقت الذي أصيبت فيه بالسكتة والتصلب؛ من غير أن تجد المسكينة من يكشف عن علتها ويعيدها إلى حالها من الحركة والدوران، وربما لا تحتاج إلا إلى حقنة بطارية لا يتعدى ثمنها درهما واحدا؛ لتعود إلى عافيتها ومهمتها في ضبط الوقت للناس، لكن لا أحد يبادر هذه المبادرة لأنه -ربما- لا أحد يريد الانضباط للوقت.
التوقف أو الخلل في ساعة قد يثير انتباهك وأنت في طريقك إلى عملك في الشارع الذي تعودت المرور منه جيئة وذهابا؛ حيث تفضلت عديد من المؤسسات بوضع ساعات إلكترونية ضمن لوحاتها الإشهارية، تتضمن التأريخ والتوقيت ودرجة الحرارة. وإنها لمبادرة تستوجب التنويه؛ أن يُحرص على وضع ما ينبه الناس على تاريخ يومهم، حتى لا يتوهوا في زحمة الأيام المتشابهة والمتشابكة بمشاكلها ومتطلباتها، فتختلط عليهم فلا يدروا أي يوم هم فيه ولا تاريخه، وكذلك ما يضبط وقتهم ويذكرهم به فيشعرهم بأهميته فلا يضيعوه، ولا يفرطوا في ثانية منه، وكذا ما يبين درجة حرارة الجو ليتعاملوا معه بما يناسب. لكن الذي يحصل أن بعض هذه الساعات تؤدي عكس وظيفتها؛ إذ عوض أن تضبط أيام الناس وأوقاتهم، إذا بها تبلبلهم وتربكهم قبل أن يتبينوا خللها من جراء الإهمال وعدم الصيانة الدورية، ومتابعة الضبط إن على مستوى التاريخ، أو التوقيت، أو مقياس الحرارة؛ فتجد بعضها أحيانا بعيدة عن الوقت الحقيقي بساعات، وقد تجدها متأخرة بيوم كامل. وعلى إثر إضافة أو تأخير ساعة في التوقيت الرسمي للمغاربة، تجد بعضها لا تحيَّن؛ لتوافق زيادة ساعة في نهاية مارس أو إنقاصها في شهر أكتوبر، كما يمكن أن تجد درجة الحرارة المسجلة بها لا تتناسب مع الجو الحقيقي، وكأن الوقت الذي لا يعبأ به في حياة هذا المواطن، يناسبه أن لا يعبأ بدرجة حرارته؛ لأن قياسا حقيقيا لدرجة حرارة الناس يتطلب مسارعة إلى البحث في أسباب ارتفاعها وانخفاضها وعلاجها بما يناسب، وهذا ما لا يراد فعله لهذا المواطن (الغلبان).
إن الأهمية في المسألة التي نناقشها، ليست في كون الساعة ميكانيكية أو إلكترونية أو حائطية أو يدوية، ولكنها فيما ترمز إليه تلك الساعة المعطلة أو المختلة؛ من حيث إنها مظهر من مظاهر خلل كبير تعانيه الأمة حِيال ذلكم الكنز الذي لا يوزن بالذهب ولا بما هو أنفس، تلكم النعمة المغبون فيها كثير من الناس، في ذاك الذي جهلنا قيمته وعرفها غيرنا؛ ويوم أن تأخرت ساعة (بيغ بين) بدقائق لا تتجاوز أصابع الكف؛ بسبب وقوف عدد من “طائر” طير الزرازير على عقرب الدقائق فيها، قامت قيامة الدولة الإنجليزية وقعدت دنياها؛ لتدارك هذا الأمر وتفاديه مرة أخرى، فيما عد الأمر حادثا خطيراً؛ لما له من آثار على الشعور الذي يمكن أن يتشكل في العقليات إزاء توقف الساعة، ولما ينتج عن ذلك من نظرة استهتارية إلى الوقت.
إذن؛ الساعة لها رمزية خاصة في حياة الأمم المتحضرة والطموحة، وعطلها منذر بعطل في الحياة. لكننا لم نفقه الدرس بعد، ولم نستشعر القيمة الحقيقية لما ترمز إليه الساعة. ورغم أن الإسلام قلب النظرة إلى الوقت، وجعل أساس الحضارة فيه قائمة على معادلة طرفاها: (الوقت + الإنسان)، وأن قيمة الإنسان وتميزه ما يستطيع أن ينجزه في وقت أقل؛ كما يحكي ذلك كتاب الله تعالى في تصوير بديع: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(النمل : 39-40)، بل جعل الحساب دقيقا على كل لحظة من عمر الإنسان؛ فـ «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل : عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه….الحديث»(1).
إلا أن أمة (والفجر، والضحى، والشمس، والليل)(2) أتى عليها حين من الدهر لم يعد للزمن عندها اعتبار، ولم يعد استغلاله شعار؛ الوقت ضائع بددا، واللهو واللعب دائم أبدا، والنوم والكسل مسترسل سرمدا، وكأنها فقدت الإحساس بحركية الكون ودوران الأفلاك، وتعاقب الليل والنهار، وسلبت وقتها؛ كما سلبت ساعة مروان.
وختاما؛ إذا كانت الساعة لها هذه الرمزية الهامة في تاريخ الأمة الوجودي والحضاري الذي تستمد منه خصوصيتها وهويتها؛ فلم تعطل ساعاتنا، ولم تهدر أوقاتنا؟
د. خالد العمراني
——
1 – أخرجه البيهقي في شعب الايمان، والبزار في مسنده: والترمذي، كلهم من حديث عن عبد الله بن مسعود ].
2 – إشارة إلى الأجزاء الزمنية التي أقسم الله بها في كتابه الكريم مما يدل على قيمة الوقت وأهميته في دين الإسلام.