إعداد : أسرة الفقيد
في الحقيقة لقد كلفنا شططا ولا ندري من أين ولا من حيث نبدأ في سرد حياة رجل تعددت وتنوعت أدواره، فقد كان رحمه الله تعالى زوجا مثاليا، وأبا حنونا، ومربيا عطوفا، ومعلما لينا مرات وصارما مرات أخرى، ومرشدا عارفا، وصديقا نصوحا، وصاحبا موجها للخير ومعينا صبورا، وسندا قويا، وركنا شديدا، ومرجعا مهما، وإنسانا خدوما ومغيثا.
وسنقتصر في هذه السطور على كتابة بعض جوانب حياته، وما كان يحرص عليه، وما كان يؤرقه ويشغل باله وجهده ووقته تاركين سيرته وحياته ومذكراته إلى أن تصدر في كتاب مستقل بإذن الله تعالى.
كان رحمه الله جل وعلا يستحضر معية الله دائما وجلاله وخشيته، والخوف منه والرجاء فيه يسخر فكره وطاقته ووقته، وعلاقاته لخدمة الدين والوطن، وكان أشد حرصا على الوقت، فكان رحمه الله تعالى دائما يضع نصب عينيه حديث رسول الله : «اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» الذي يبين حقيقة المغنم.
وكان حريصا على العمل بالفرص المتاحة، حريصا على وقته ينفقه كما ينفق ماله أو أكثر، وكان يكره أن يرى أحدا من المسلمين يهدر وقته و يضيعه سدى.
كما كان حريصا رحمه الله على إقامة الصلوات بالمساجد ويستحضر حديث رسول الله : «أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة…»، وأثناء الأعياد يحب أن يصلي الأعياد في مساجد مختلفة ليلتقي بأكبر عدد ممكن من إخوانه وأحبابه وأصدقائه.
وكان كثير الزيارة والسؤال عن أحوال العلماء وأقربائه وإخوانه في الدعوة وأعمال الخير وأصدقائه.
أما بيته فكان ملاذا ومحجا للطلبة وأصحاب الحاجات، فكان رحمه الله لا يردهم بل ويمشي معهم لقضاء حوائجهم، فكم من طالب قضى معنا سنوات حتى تخرج وحصل على عمل، وبالبيت أقيمت حلقات الذكر والعلم، وتأسست اللبنات الأولى لجمعيات ومجلات إسلامية ولأعمال الخير والبر، ولمؤتمرات وندوات محلية ووطنية وعالمية.
وفي البيت أسلم أناس، وأصلحت ذات بينهم، وكان يستثمر علاقاته أحسن استثمار لخدمة الدين والوطن.
فكم توسط لطلاب عرب وغير عرب اضطروا لترك أوطانهم وأتموا دراستهم داخل المغرب، ودرس على يديه طلاب مشارقة ومغاربة وآسيويون وأوربيون، تخرجوا وصنعوا على عينيه وتقلدوا مراكز مهمة في بلدانهم.
ورغم كبر سنه رحمه الله فقد كان شغوفا بالعلم وتعلم الجديد، وإن زاره أحد يسأله عن الجديد وعن الفائدة.
كان رحمه الله يركز دائما على إعداد الفرد، وإعداد القدرات، وبناء المسلم الذي يتقن عمله ويخلص فيه، ويطوره مع ما يتناسب مع العصر. فكان رحمه الله يحث كل واحد على أن يتقن عمله وعلمه وحرفته ومهنته وفنه.
وكان رحمه الله عندما يتعرف على أحد يسأله عن دقائق الأمور في أصوله وعمله واختصاصه ومهاراته.
فقد افتقدناه رحمه الله وفقدناه، ولسنا الوحيدين الذين فقدناه، بل كل العائلة، وجميع طلابه وإخوانه وأصدقائه ومعارفه خاصة، وبلده المغرب والعالم العربي والإسلامي عامة، حيث لم يكل من دعوة الناس إلى الوسطية والاعتدال واحترام الآخر، وخدمة الوطن والعالم بنشر تعاليم الإسلام السمحة، ونبذ العنف والخلاف، كان رحمه الله وسيظل نبراسا وقدوة لنا ولكل العالم الإسلامي في مجال الدعوة والعمل الثقافي والاجتماعي.
لقد علمنا دائما الاعتماد على الله والثقة به، وحسن الظن فيه، وحسن الظن في الناس والإحسان إليهم، واستثمار ما فيهم من خير.
كان رحمه الله يردد دائما : لقد سخرنا الله لخدمة الأمة فلا تحزنوا إن لاقيتم أذى أو سوء كلام في خدمة الناس، فالأجر مضمون عند الله تعالى، وهذه هي التجارة الرابحة هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم… .
لقد يسر الله لنا أن نلتقي كبار الدعاة والشخصيات الذين كانوا يزوروننا في البيت، وكان من عادته أن ينادي علينا للجلوس معهم للاستفادة منهم مباشرة في أمور الدين والدنيا، وكان يحدثنا عن قادة ومفكرين عايشهم في لبنان وسوريا ومصر والشرق عموما كأمير الجهاد محمد بن عبد الكريم الخطابي، والمفكر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي وغيرهم من كبار المفكرين والدعاة.
وكان خوفه الأكبر أن تنتقل عدوى الانشقاقات في جسم الدعوة إلى المغرب، لأنه رأى بأم عينيه الويلات التي أصابت الدول الإسلامية بالشرق.
كلما تكلم لنا عن الأندلس إلا وتكلم بحرقة عن ضياعها وكان يردد أن أسباب ضياعها موجودة الآن في جل دول العالم الإسلامي، وسوف تضيع دول إن بقيت تسير في نفس الاتجاه.
طبت حيا وطبت ميتا يا أبانا الغالي، فإنا والله أحببناك في الله، ونحبك لله، فأنت خالد في قلوبنا وقلوب أحبائك، ودعواتنا لك بالفردوس الأعلى، ومرافقة سيد الخلق محمد عليه الصلاة وأزكى السلام.