الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وبه أستعين، وأشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله النبي الصادق الأمين، بلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
كثر الحديث في هذه الأيام حول أمور شرعية متعددة، بدعوى إعادة النظر فيها بما يتلاءم وحقوق الإنسان العالمية، كالردة والقصاص والمساواة وغيرها، وهي أمور جاءت نصوص الكتاب والسنة فيها جلية صريحة، ورأي الفقه الإسلامي –ومنه الفقه المالكي- واضحا بينا، ومن آخر ما كثر الكلام حوله في هذا الباب المطالبة بحرية الإجهاض الذي يعني إلقاء ما في البطون من الأجنة، وإسقاط ما في الأرحام من الحمل، ويقنع المطالبون بتقنين الإجهاض بقصره على الحمل الناتج عن زنى المحارم في مرحلة أولى، تعقبها مرحلة ثانية يطالبون فيها بالإجهاض من الزنى بصفة عامة، ثم تعقبها مرحلة ثالثة بالإجهاض مطلقا، كان من نكاح أو سفاح، وهذه القضية تحتاج منا إلى تبيين عدة أمور، نجملها في أمرين:
الأمر الأول أن زنا المحارم -وهو أن تحمل المرأة من أبيها أو أخيها ونحو ذلك- من أهم أسبابه – زيادة على تغييب التربية على الدين في تعليمنا وإعلامنا وأسرنا وواقعنا بصفة عامة-:
انتشار محلات بيع الخمور بشكل خطير جدا، وانتشار المخدرات الصلبة انتشارا واسعا، مما يؤدي في الحالتين معا إلى غياب العقل، وفقدان الوعي، فينتج عن ذلك ارتكاب جريمة الزنا في حق أقرب المقربين من البنات والأخوات وربما الأمهات.
السبب الثاني هو تعميم العري، وأفلام الفاحشة، مما يحصر تفكير بعض ضعاف النفوس، من الرجال والشباب والمراهقين في العلاقة بالنساء، ويجعل تفكيرهم وهمهم كله إشباع شهوات فروجهم، فإذا عجزوا عن ذلك في الشارع العام بحثوا عنه داخل المنازل، وبين الأهل والأقارب، وعليه فإن حل مشكلة زنا المحارم يكون بقطع أسبابه، ومنع وسائله التي أشرنا إليها، وليس بالمطالبة بحرية الإجهاض أو بتقنينه، لما في ذلك من تشجيع على هذا النوع من الزنا وغيره، لأن من علم أو علمت أنهما سيتخلصان من الجنين دون أن يعلم بهما أحد من الناس، سيرتكبان جريمة الزنا وهما مرتاحان مطمئنان وتحت حماية القانون، وهذا يعني فتح باب الزنا والفاحشة في المجتمع بدرجة لا حدود لها، فيستحق لعنة الله وغضبه وعقابه، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون عن بريدة ، قال: قال رسول الله : «ما نقض قوم العهد قط، إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط، إلا سلط الله عليهم الموت” وعن عطاء بن أبي رباح، قال: كنت مع عبد الله بن عمر فأتاه فتى يسأله عن إسدال العمامة، فقال ابن عمر: سأخبرك عن ذلك بعلم إن شاء الله تعالى، قال: كنت عاشر عشرة في مسجد رسول الله : أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عوف، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم، فجاء فتى من الأنصار فسلم على رسول الله ثم جلس، فقال: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقا» قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا قبل أن ينزل بهم أولئك من الأكياس» ثم سكت الفتى، وأقبل عليه النبي ، فقال: “يا معشر المهاجرين، خمس إن ابتليتم بهن ونزلن فيكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعملوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم” فليست المسألة مجرد تقنين للإجهاض وإنما هي مطالبة بتقنين فاحشة الزنا مع أقرب المقربين، من البنات والأخوات والأمهات.. وهذا معناه العمل على إيجاد مجتمع حيواني بهيمي، يأتي فيه الذكر أنثاه، دون وازع من دين أو خلق أو حياء..
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين…
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
عباد الله:
الأمر الثاني: هو أن الدعوة إلى حرية الإجهاض أو تقنينه دعوة صريحة إلى القتل، ومطالبة بجعله أمرا قانونيا يمكن لكل زانية ممارسته، وهذا يعني أنها دعوة إلى جريمتين من أبشع الجرائم في وقت واحد: جريمة الزنا المقنن، وجريمة القتل المقنن، أو دعوة إلى جريمة الزنا والعمل على طمس معالم الجريمة بقتل الجنين، مع أن جريمة القتل هي أبشع من جريمة الزنا، بدليل أن الشرع حكم على الزاني مرة بالقتل ومرة بالجلد فقط، بينما في القتل حكم بالقتل، ولقد جمع الله مرتكبي الجريمتين مع المشركين وتوعدهم بأشد أنواع العقاب فقال: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا فما الفرق بين هؤلاء وبين قتلة الجاهلية، أوليس هذا هو الوأد الذي أنكره القرآن على فاعليه؟ وينكره هؤلاء بدعوى التقدمية والتمدن، قال الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَت فما ذنب الجنين المقتول؟ وما دخله في الموضوع؟
إن المطالبين اليوم بقتل الأجنة والتخلص منها هم أنفسهم المطالبون بإلغاء قتل القاتل عمدا عدوانا المعروف في الشريعة بالقصاص، والمشهور في الواقع العام بالإعدام، وحجتهم في ذلك أن الحياة حق مقدس لا يجوز المساس به، فكيف بهم يطالبون بقتل الجنين، أليس حقه في الحياة مقدسا بنفس المنطق الذي يتحدثون به؟ أم هي الأهواء والرغبات والشهوات، تجعل أصحابها يطالبون بالقتل تارة وإلغائه أخرى.
عباد الله: إن الإسلام حفظ للجنين حقه في الحياة، إلى درجة أنه أوقف إقامة الحدود قبل الولادة حتى لا يصاب بإذاية، ففي الصحيح أن امرأة من غامد من الأزد، جاءت النبي فقالت : يا رسول الله، طهرني، فقال: «ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه» فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، قال: «وما ذاك؟» قالت: إنها حبلى من الزنى، فقال: «آنت؟» قالت: نعم، فقال لها: «حتى تضعي ما في بطنك»، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي ، فقال: «قد وضعت الغامدية»، فقال: «إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه»، فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها.
هكذا توقف الحدود الشرعية حماية لحياة الجنين، وحفظا لحقه المقدس، وهو ضعيف لا يستطيع أن يحمي حقه بنفسه، ولكن الإسلام تولى حمايته من هؤلاء القتلة.
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد.
د. امحمد العمراوي
دروسكم في القمة ،لكم جزيل الشكر على المجهودات التي تقومون بها.