قال الله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (ص : 86). قال ابن عاشور رحمه الله تعالى : التكلف : معالجة الكلفة، وهي ما يشق على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه، ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل، فالمتكلف هو الذي يطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلم. فالمعني هنا، ما أنا بمدع النبوة باطلا من غير أن يوحي إلي، وأخذ من قوله : «وما أنا من المتكلفين» أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه، أي لا مشقة في تكاليفه، وهو معنى سماحة الإسلام، وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله تعالى أن جعل بين طبع رسول الله وبين الشريعة تناسبا(1).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال : نهينا عن التكلف، رواه البخاري.
الحديث رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من رواية أنس قال : «كنا عند عمر فقال : نهينا عن التكلف» وليس عن ابن عمر، وبوب له : باب ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وسبب وروده أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله تعالى : وفاكهة وأبا ما الأبُّ؟ فقال عمر : «نهينا عن التعمق والتكلف» (2).
فهذا هو التكلف وهو الخوض فيما لا يفيد، أو ما لا تنبني عليه مصلحة تذكر، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد … ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
وقد جاء رجل إلى شعبة فقال : يا أبا بسطام حدثني بحديث حماد عن إبراهيم أنه قال : لأن يلبس الرجل في طلب العلم نعلين زمامهما من حديد فلم يجبه، فقال الرجل : أتيتك من المغرب من مسيرة أشهر. فقال : ألا تعجبون من هذا جاء من مسيرة ستة أشهر يسأل عن حديث لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، أكتبوا حدثني قتادة عن أنس قال : سمعت رسول الله يقول : «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» فقال له : إذا سألت يا أخا أهل المغرب فسل عن مثل هذا، وإلا قد ذهبت رحلتك باطلا.
وعن مسروق قال : دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم، فليقل : الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم : الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه : قل ما أسألكم عليه من اجر وما أنا من المتكلفين رواه البخاري.
إن التوقف وعدم التكلف دليل على سلامة الفهم، ورجاحة العقل، فإذا عرضت المسألة على الداعية واشتبه عليه الأمر فيها فلا يستنكف أن يقول : لا أدري، ولا يتكلف ما لا يعرف، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أخطأ العالم أن يقول : لا أدري فقد أصيبت مقاتله.
وقد كان كبار العلماء يقولون : لا أدري غير مستوحشين. فقد سئل مالك عن مسألة فقال للسائل : لا أدري، فقال الرجل : أذكر أنك لا تدري، قال : نعم احك عني أني لا أدري.
وكان يقول : من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب.
قال ابن جماعة رحمه الله تعالى: واعلم أن قول المسؤول: لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه، لأنه دليل على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته، وإنما يأنف من قول: لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته، لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين وهذه جهالة ورقة دين. انتهى
وقال الآجري رحمه الله تعالى : وما الحجة لعالم يسأل عن شيء لا يعلمه فلا يستنكف أن يقول لا أعلم إذا كان لا يعلم، وقد كان النبي إذا سئل عن الشيء لم يتقدم له فيه علم الوحي من الله عز وجل يقول : لا أدري، وهكذا يجب على كل من سئل عن شيء لم يتقدم له فيه العلم أن يقول : الله أعلم، ولا يكلف ما لا يعلمه فهو أعذر له عند الله وعند ذوي الألباب (3).
ذ. عبد الحميد صدوق
————–
1 – التحرير والتنوير ج 23 ص 308.
2 – قال ابن عباس رضي الله عنهما : الأَبُّ ما تنبته الأرض مما تأكله الدواب، ولا يأكله الناس. وقال أهل اللغة : الأب مطلق المرعى.
3 – أخلاق العلماء ص 81.