عبد الرحمان بوعلي
مع كتاب الله تعالى
إن مجرد نظرة تأملية بسيطة إلى علاقة الإنسان بهذا الكون وإلى صلته بالعلم نجدهما علاقة وصلة كاللتين بين الحكم وعلته، فالحكم _ عند علمائنا في الأصول _ يدور مع علته وجودا وعدما. والإنسان يدور مع العلم وجودا وعدما، ومن عاش بغير علم إنما هو ميت تأخر دفنه.
هكذا أعد الله تعالى بني آدم بالعلم لعمارة الأرض فقال سبحانه مخبرا عن المنهج الدقيق المتبع في تعليمه : وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين.
منهج تعليمي فريد، كان المتعلم فيه هو مركز ومحور العملية التعليمية.
إنه اختيار رباني حكيم للفعل التعليمي وليس غيره، وهو الذي يفيد سابق جهل عميق، مع الأمل الجموح في محاربته بالفعل التعليمي ذاته .
كما يفيد هذا الأخير افتقار الآدمي إلى من يمارس عليه هذا الفعل التعليمي، وهذا الافتقار أبدي يمثل صيرورة المسار التربوي لبني آدم.
لم يختر المولى عز وجل فعلا تربويا آخر كفعل : «ع ر ف» وكفعل : «ف ه م» وكفعل «أدرك…» .
لكنه سبحانه أودع المنهج الرباني في فعل «ع ل م» للكشف عن وضعية المتعلم وخصوصياته التي بها كان أهلا لمزيد الشرف أن يعلم من مستلزمات عمارة الأرض ما لم يتفضل به سبحانه حتى على الملائكة المقربين.
ولم يحصل ذلك بنوع من الكتمان والسرية بل كان مقرونا بسؤال يومئ إلى نوع من التحدي العلني والمشهود: وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين….
إنها صورة تكريمية للإنسان في منتهى العظمة، أن يتولى رب العزة تعليم آدم أول ما يتلقاه الخلق «الاسماء كلها»، ثم يرقى موضوع التعليم إلى صفوف الملائكة فيجهلونه، إعلانا عن الانفرادية والخصوصية والتميز البشري القابل للنماء بلا حصر ولا حدود، فهل حفظ الإنسان هذه الانفرادية وهل ثبت على خصوصيته وعلى تميزه ؟؟
ظواهر النصوص الشرعية تشير إلى أن تكريم آدم بالعلم كل العلم كان مرهونا ببراءته وبداية خلقه، وربه عز وجل يعده للحياة في الأرض وعمارتها، أما وقد بلغ الإنسان ما بلغ من البلايا والانحراف حتى عن الفطرة الإنسانية وعن المنهج السليم في الحياة وعمارة الأرض اقتضى الحال أن يعلق هذا العلم والتعليم والتعلم بشرط جامع مانع هو: « تقوى الله» فقال عز وجل مخبرا بذلك ومعلنا : واتقوا الله ويعلمكم الله.
بل أسس على ذلك وبسببه شرطا آخر وهو أن يتكلف الآدمي فعلي القراءة والكتابة بكد وجهد جهيد فقال سبحانه : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم…. .
إذ كان بالإمكان بمقدور الله عز وجل وما يزال أن يعلم بني آدم بغير تقوى، وهم عبيده، وبغير قراءة ولا كتابة كما علم أبا البشرية آدم عليه السلام ما علمه دون أدنى تكلف بشري من آدم ، لكن ذلك كان وحصل فقط عند الاستحقاق.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يقع تعليم آدم دفعة واحدة بلا قياس للزمن ولا اعتبار بالكيف، جاء ذلك في صيغة الفعل الماضي للدلالة أيضا على أن إرادة الله تعالى فوق كل الأسباب والوسائل التي يظل الفعل البشري في التعليم أسيرا لها.
فالتعليم والتعلم إذا معلقان بشرطي التقوى وفعل القراءة وطلب الوسائل، بمعنى أن الإنسان لم يعد يمتلك البراءة الخلقية «التقوى» التي بسببها نال من الله تعالى عناية خاصة.
إنها كلمة هو قائلها «التقوى» جامعة لمنظومة القيم التي خلق آدم لعمارة الأرض بها.
القيم جملة من الخصال تمكن من اتصف بها من دوام الصلة بالخالق سبحانه بلا نقض للعهد ولا انتكاسة في خالص العمل، وتقوى الله عز وجل جامع لشأني الدنيا والدين، ومن ثم فإن القيم الإنسانية جامعة بالضرورة شأني الدنيا والدين.
أما القيم في الحقل التربوي فهي «مجموعة المعايير الموجهة لسلوك الإنسان ودوافعه في تناسق أو تضارب مع الأهداف والمثل العليا التي تستند إليها علاقات المجتمع وأنشطته، ولذلك فهي تتميز عن غيرها من الدوافع السلوكية، كالعادات والاتجاهات والأعراف، في كونها تتضمن سياقا معقدا من الأحكام المعيارية للتمييز بين الصواب والخطإ، بين الحقيقي والزائف، وتمثل وعيا جماعيا، وتكون أكثر تجريدا ورمزية وثباتا وعمومية، كما تكون أكثر بطءا في التكوين، وتهم غاية من غايات الوجود، وامتثالا لأوامر، تنبع من داخل الإنسان وليس بناء على ضغوطات خارجية».
والقيم من القيمة التي لها استعمالان :
أحدهما معياري نسبي كما في الاقتصاد حيث ترادف القيمة المنفعة، والمنفعة شيء نسبي يتوقف على الحاجة والعرض والطلب .
وثانيهما معياري مطلق كما في حقل الأخلاق؛ حيث لا تتوقف القيمة على المنفعة أو الحاجة أو الظروف، بل هي مستقلة عن كل اعتبار، إنها قيمة في ذاتها، وفي هذا المعنى الأخير تضارع القيمة المثال.
إن تقوى الله عز وجل تجسيد لعلاقتي الإنسان بربه ثم بالعباد. ولذا فالقيمة والقيم تعبير عن هذا الاتجاه وهذا المعنى النبيل.
والتقوى : مأخوذة من الوقاية، وهي الحجاب الموضوع دون المكروه، فإذا اتقيت الله بقلبك أولا كما يجب، كان ذلك تعليما منه لك بوضع الحجب التي تقيك عذابه، والوقاية بالعلم من العذاب قبل الوقاية بالعمل.
وفي علاقة التقوى بالعلم والتعلم يقول القاضي أبو بكر بن العربي المعافري :واتقوا الله ويعلمكم الله (البقرة: 282).
أفاد هذا الظاهر أن العلم ثمرة التقوى التي هي أصل الأعمال، وترجمة جميعها أو كلها .
وقد نقل ذلك عن مالك في قوله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله في قلب من يشاء «قال القاضي أبو بكر: وهذا مقطع شريف ليس من غرضهم في شيء وإنما له حقيقة معلومة، وهي أن العبد إذا واظب على الطاعات ونبذ المعاصي، لم يكن ذلك إلا باستمرار علمه، واستدامة نيته، فإن العمل بالقصد، والقصد يرتبط بالعلم فإنهما أخوان، فإذا دام العمل الصالح، دل على دوام العلم، وإذا علم ولم يعمل أوشك أن يذهب العلم، ويكون نقصان العمل، علامة على نقصان العلم أو ذهابه.
فإن قيل: وكيف يذهب العلم بذهاب العمل، والعلم أصل، والعمل فرع عليه، والفرع هو الذي يذهب بذهاب الأصل؟ قلت عنه جوابان:
أحدهما : أنا نمثل لكم ما يحققه، فنقول: إنك ترى الغصن في الشجرة الناضرة ذابلا، فتستدل به على نقصان مادة الأصل، التي كانت تمده بالري، ولولا نضوب المادة، وهي الأصل من الأصل لما ذبل الغصن في الشجرة الناضرة، فكان ذهاب الفرع لذهاب الأصل، وعلامة عليه.
الثاني : وهو التحقيق، أن التقوى والعلم جميعا، من جملة الأعمال، وكلاهما من الأعمال القلبية، وتنفرد التقوى بقسم منها، وهو من عمل الجوارح، فإذا نقص العمل، كان لنقصان العلم ضرورة، ولهذا قال : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» أخبر به، أنه لا يقدم على الزنا إلا بعد فوات جزء من العلم , وورد في الحديث الصحيح: «تعرض الفتن على القلوب، كالحصير» (1)
يقول الإمام الشافعي في السياق نفسه:
لأن التقوى إنما تكون على من عَقَلَها، وكان من أهلها من البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدوابّ سواهم، ودون المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفال الذين لم يبلغوا وَعُقِلَ التقوى منهم، فلا يجوز أن يوصف بالتقوى وخلافها إلا من عقلها، وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها.
والكتاب يدل على ما وصفت، وفي السنة دلالة عليها قال رسول الله : «رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يُفيق» الحديث (2).
——-
1 – العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي المعافري , 1 / 17 تحقيق: الدكتور عمار طالبي ، نشر: مكتبة دار التراث، مصر.
2 – تفسير الإمام الشافعي أبي عبد الله محمد بن إدريس، جمع وتحقيق ودراسة: د. أحمد بن مصطفى الفرَّان (رسالة دكتوراه)، نشر: دار التدمرية – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى: 1427 – 2006 م)