د. يسري إبراهيم
3. نسبة علمِ السيرة النبوية الكاملة (1) علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بعلم المغازيسبق للدكتور يسري إبراهيم في الحلقتين السابقتين أن تناول التعريف بعلم السيرة النبوية وبموضوعه وأسمائه، ويهدف في هذه الحلقة والتي تليها إلى بيان نسبة علم السيرة إلى العلوم الأخرى وعلاقته بها كعلاقته بعلم المغازي، وعلم الحديث، وعلم التاريخ، وبالشمائل والخصائص والدلائل، ويخصص هذه الحلقة لبيان وجوه ارتباط علم السيرة بعلم المغازي، فما هي هذه العلاقة؟ وما وجوه الاتصال والانفصال بين العلمين؟
نسبة العلم هي علاقَتُهُ وصِلتُهُ بغيره من العلوم، وهذه النسبة لا تخرج عن واحدة من أربعٍ نِسَبٍ، فإمَّا أن تترادف بحيث تُطلَقُ الأسماءُ المتعددة والمتفاوتة على العلوم المتفقة في موضوعها ومعلومها.
و إما أن تتخالَفَ وتتباين العلوم بتباين أسمائها ومسمياتها؛ بحيث لو نُسب أحد العلمين إلى الآخَرِ لم يصدق على شيء مما صدق عليه الآخَرُ.
وإما أن تتداخل بأن يكون أحدُ العلمين أعمَّ والآخَرُ أخصَّ؛ فإن كان أحدهما داخلَ الآخرِ بتمامه فهو العموم والخصوص المطلق.
وإن كان كلٌّ من العِلمين أعمَّ مِن جهةٍ وأخصَّ مِن جهةٍ أخرى فهو العموم والخصوص الوجهيُّ، أو النسبيُّ.
وفي ظل هذه النسب الأربع تدرس العلاقة بين علم السيرة النبوية الكاملة وما عداه من العلوم.
وبادئ ذي بدءٍ فإن علم السيرة النبوية الكاملة – على ما جرى تحديده وتعريفه من الجمع والعناية والترتيب لوقائع أيام وأحداث حياته – يبدو علمًا مستقلًّا منفردًا لا يشتبه ولا يلتبس بغيره من العلوم؛حيث إن هذا المعنى الاصطلاحيَّ الموسوعيَّ للسيرة النبوية لاينطبق على كتاب قديمأ وحديث بعينه، كما أن هذا التحديدَ الجديدَ لهذا العلمِ الوليدِ في هيئته، الأصيلَ القديمَ في مبادئه ومدوناته الأولى- لم يستقرَّ على الوجه الذي لانقاشَ معه، وإنما هذا الطرح الأوليُّ للنقاش والحوار العلميِّ حتى يستويَ ويقومَ على سوقه فيؤتي أُكُلَهُ اليانعةَ، وثمراتِهِ النافعةَ الماتعةَ – بإذن الله تعالى.
وبناءً على ماسبق فلا مانعَ من دراسة وبحث ما يشتبه به علم السيرة أو يتعلَّق به من العلوم، على أن استمداد هذا العلم الشريف هو من علوم كثيرة – سيأتي بيانها قريبا إن شاء الله تعالى.
و فيما يلي دراسة تفصيلية لنسبة علم السيرة النبوية وعلاقته بالعلوم الشرعية القريبة منه:
أولًا: علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بعلم المغازي.
ثانيًا: علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بالسنة و علم الحديث.
ثالثًا: علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بعلم التاريخ.
رابعًا: علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بالشمائل والخصائص و الدلائل
أولاً: علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بعلم المغازي:
علم المغازي من أقدم العلوم الإسلامية قاطبةً، يقول الزهري (124): «في علمِ المغازي علمُ الآخرة والدنيا» (1)، ورواية هذا العلم بدأت من لدن الصحابة، وتدوينه في عصر التابعين، فهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (93) يقول: «كنا نُعلَّمُ مغازي النبي و سراياه كما نُعلَّمُ السورةَ من القرآن »(2).
ولقد تتابع السلفُ على هذا العمل روايةً وتدوينًا، يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص (134): «كان أبي يعلِّمنا مغازِيَ رسولِ الله- ويعدُّها علينا- وسراياه، ويقول: يابَنِيَّ هذه مآثِرُ آبائكم فلا تضيِّعوا ذِكْرَها» (3).
وقد انتقلت هذه العناية من المدينة النبوية إلى سائر الأمصار، حتى اشتهرأ هل الشام بعنايتهم بها.
يقول سفيان بن عيينة: «إذا أردتَ الحديث الصحيح، والإسناد الجيد فعليك بأهل المدينة، وإذا أردتَ النُّسُكَ فعليك بأهل مكةَ، وإذا أردتَ المغازيَ فعليك بأهل الشام » (4) – وفي رواية -: «ومَن أراد المقاسِمَ وأمْرَ الغزوِ فعليه بأهل الشام » (5).
معنى كلمة المغازي:
المغازي لغةً: جمع مَغْزًى – بفتح الميم – وهي مشتقة مِن غزا يغزو غزوًا، وأصله: طلبُ الشيء وقَصْدُهُ، ومغزَى الكلام: مقصدُهُ، ومن سار إلى عدوه لقتاله فقد غزاه، أو قصدَهُ بالقتال.
والغَزَاةُ والمغزَاةُ بمعنى : الغزوة.
وقد استُعْمِلَ مصطلحُ المغازي مبكرًا وعند الأوائل، وبالتَّتَبُّعِ الدقيقِ لمرادهم منه يتضح أنهم إنما استعملوه لما يتعلَّق بالنبيّ وسيرته وأيامه مع أعدائه؛ بل و ربما لما سبق مولِدَهُ من أحداث، وما تلا وفاته من وقائِعَ – أيضًا.
ويمكن القول: إن هذا الاصطلاح الواسع للمغازي مستعمل زمنَ أصحاب رسول الله، فهذا ابنُ عباسٍ (68) يقول: «كنتُ ألزمُ الأكابر من أصحاب النبيِّ فأسألهم عن مغازي رسول الله » (6).
ويقول عنه عبيد الله بن عتبة بن مسعود المدني (94 أو 98):- «كان – أي: ابن عباس – يجلسُ…، ويومًا للمغازي » (7).
وبعدفحصمروياتهفيالسيرةتبينأنهالمتقتصرعلىالغزواتفقط،بلتطرَّقتإلىفترةالبعثةوماسبقهامنمقدمات(8). وممايدلعلىهذاالمعنىأنابنهشام (218) لـمَّااختصرمغازِيَوسيرةَابنِإسحق (151) قالعنمنهجهفيالاختصار: «… وتاركٌبعضَماذكرهابنُإسحقفيهذاالكتاب،مماليسللرسول♀فيهذِكر،ولانزلفيهمنالقرآنشيء،وليسسببًالشيءمنهذاالكتاب،ولاتفسيرًاله،ولاشاهدًاعليه،لماذكرتُمنالاختصار»(9).
وهذا المنهج الذي سار عليه ابن إسحاقَ، على مثله سار معاصِرُهُ موسى بن عقبة (141) في كتابه: المغازي، وهو من أوائل ما أُلِّفَ في المغازي، وقد وثَّقه أهل العلم وأثنوا على مغازيه، فقال الإمام مالك (179): «عليكم بمغازي موسى بن عقبة؛ فإن هثقة » (10).
وبالنظر في مادة هذاالكتاب والكتب التي نَقلتْ عنه يتبين أنها لم تقتصر على الغزوات فحسب، وإنما تتناول البعثة والمرحلة المكية وغيرها.
وقد نقل الذهبيُّ عن مغازي موسى بنِ عقبةَ، فقال: «قال موسى بنُ عقبة – في المغازي-: كان رسول الله – فيما بلغنا – أول ما رأى أن الله أراه رؤيا في المنام، فشقَّ ذلك عليه فذكره الخديجةَ » (11).
ومن صنيع ابنِ إسحقَ والواقديِّ وغيرِهما في المؤلفات التي حملتِ اسمَ المغازي يظهر جليًّا عنايةُ المؤلفين تحت هذا العنوانِ بجميع ما يتعلَّق بحياته من إرهاصات مولده إلى ما بعد وفاته، فيشمل هذا مايطلقون عليه المبتدأَ والمبعثَ و المغازيَ (12)؛بل ويتطرقون أحيانًا إلى أخبار السقيفة والخلفاء الثلاثة، وإلى الفتنة في عهد عثمان، وبندرةٍ تجاوزوا هذا إلى ذِكرفتوحات البلدان، وتواريخ الخلفاء والأمراء (13).
ولعل أول مصنف حمل اسم المغازي هو ماجمعه عروة بن الزبير(94هـ) من الآثار والأخبار، ثم وسَّعَ ذلك ورتَّبه الزهريُّ (124هـ)، ثم جاء موسى بن عقبة (141هـ) بكتابه المستقلِّ ترتيبًا وتبويبًا وتصرُّفًا، ومن ثمَّ تتابع علماء السيرة على التصنيف تحت هذا العنوان (المغازي).
ومِن آخِرِ مَن صنف في السيرةِ تحت اسم المغازي من المشارقة الإمام إسماعيل التيمي الملقب بقوامِ السنة (535هـ)، ومن المغاربة القاضي سليمان الكلاعي الأندلسي (634هـ).
وعليه؛فإن الراجح الصحيح هو أن استعمال المتقدمين لمصطلح المغازي كان أوسع مشمولًا مِن ذِكر الغزوات والسرايا النبوية، وأن القول بأن علمَ السيرة أعمُّ، وعلمَ المغازي أخصُّ لا يصح في اصطلاح المتقدمين المدوِّنين في هذا العلم.
وأن التوسع في ذكر تفاصيل حياته كان مصاحبًا لأوائل التصنيفات في المغازي، وإن كان أصلا لمعنى اللغوي للمصطلح قاصرًا على الغزو والجهاد.
وأخيرًا فإنه يمكن الاطمئنان إلى أن مصطلحَيِ(المغازي والسير) مترادفان ومنطلِقان على علم واحد عند المتقدمين.
ثم غلب على المتأخرين التصنيفُ تحت اسم السيرة النبوية، وهجر التعبير بالمغازي؛إذ صارت كلمة السيرة أنسبَ وأقربَ، لاسيما بعد شيوع و ذيوع كتاب ابن هشام الذي اختصر فيه ابنَ إسحق (141هـ)، حيث سماه السيرة النبوية، على أن بدايات ظهور اسم السيرة كان بإطلاق اسم (المغازي والسير) على كتاب ابن إسحقَ نفسِهِ.
وكما شاع تتسمية (المغازي) عندالمشارقة، شاع مصطلح (الـمَشاهِد) عند المغاربة،فَيُعبِّرُون بكتب المشاهد عن كتب المغازي.
لكن يتبقى أن العناية بجمع الأحداث والوقائع اليومية وترتيبها على نحو مايعرفه المتأخِّرون والمعاصرون من المدونة اليومية لم يُعْرَفْ في مصنفات المغازي والسير المتقدمة؛ بل ولا المتأخِّرة!
كما أن ذِكر أحواله كافَّةً مما فات في كتبِ السيرة ذِكرُهُ فلم يَعتنوا بنقل جميعِ فِعلِهِ في حضره وسفره، وظَعْنِهِ وإقامَتِهِ، وسائر أحواله مِن يقظةٍ ومنامٍ، وصمتٍ ونطقٍ، ومأكلٍ ومشربٍ، وملبسٍ ومركبٍ، ونحو ذلك مما هو مقصودُ من أراد التعرُّفَ على يومه الشريفِ، اعتمادًا على تدوين ذلك في كتب السنة وغيرها.
———————————
(1) البداية و النهاية، لابن كثير (3/297).
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، بتحقيق: محمد عجاج الخطيب (2/288)،رقم (1649).
(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي (2/287-288).
(4) تاريخ دمشق، لابن عساكر (1/329).
(5) تاريخ دمشق، لابن عساكر (1/329-330).
(6) طبقات ابن سعد (2/371).
(7) طبقات ابن سعد (2/368).
(8) مصادر السيرة النبوية بين المحدِّثين والمؤرِّخِين، د. ياسر نور (ص297)،ط جائزة نايف بن عبد العزيز.
(9) تهذيب السيرة، لابن هشام (1/3-2).
(10) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (8/154) ط 1،دارالكتب العلمية، لبنان، بيروت.
(11) تاريخ الإسلام، للذهبي (1/59)،ط 3 دارالغد العربي القاهرة.
(12) ومن ذلك: صنيعُ ابنِ عبد البر في كتابه: (الدرر في اختصار المغازي والسير)،حيث قال: «هذا كتابٌ اختصرتُ فيه ذِكْرَ مبعثِ النبي و ابتداء نبوته، وأول أمره في رسالته، ومغازيه وسيرته فيها… اختصرتُ ذلك من كتاب موسى بن عقبة وكتاب ابن اسحق رواية ابن هشام وغيره، وربما ذكرتُ فيه خبرًا ليس منهما»، الدرر (ص27).
(13) من ذلك: استطرادُ ابنِ عائذ الدمشقي لذكر الفتوحات حتى وفاة المأمون العباسي عام 218هـ، وكان معاصرًا له، انظر: محمد بن عائذ الدمشقي ومصنفاته التاريخية، د. سليمان السويكت، مجلة الدارة عدد 3، لسنة 25، عام 1420هـ.
———
* المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر العالمي الثاني للباحثين في السيرة النبوية