ذ. صهيب مصباح
مادة اللغة تدور حولها أبحاث تعالج مختلف قضاياها الموضوعية والشكلية، وفي هذا السياق، رأينا أن نعالج جانبا مرتبطا بها ارتباطا مزدوجا؛يصف قضاياها من ناحية المضمون ومن ناحية الشكل، لنبرز أثر اختلاف المرجعيات على اللغة العربية، ونجعل موضوع البيان وضعية اللغة قبل الإسلام ودور الوحي في بلورة قضاياها، بعدما كانت تستقي من مرجعية جاهلية بنية وموضوعا.
فموضوعنا هذا محاولة لبيان أثر المنظومات المرجعية في تشكيل لغة التواصل، ونموذجنا هنا هو اللغة العربية.
> البغية الأولى: اللغة بين المرجعية الجاهلية والمرجعية الإسلامية
< الجزئية الأولى: علاقة اللغة بالبيئة الجاهلية.
يرجع اهتمام الإنسان باللغة إلى عصور سحيقة، وإذا كنا لا نعرف عن الدراسات العربية إلا الجهود التي بذلت بعد ظهور الإسلام، فإن التاريخ قد سجل نُبَذا تدل على اهتمامات مبكرة لغير العرب، فقد نقل عن الهنود اهتمامهم بأصوات لغتهم، ونحوها ومفرداتها، وكذلك اليونانيون، حيث اهتموا باللغة، وألفوا معاجم لغتهم قبل الميلاد، رابطين قضايا لغتهم بالفلسفة، كما كان للمصريين القُدماء والصينيين اهتمام قديم بالنحو واللغة، مما يعني أن اللغة وسيلة للتواصل ارتبط وجودها بوجود الإنسان على اختلاف ألوانه وأشكاله، وعلى اختلاف وعيه وفكره ومذهبه، واختلاف أنماط الحضارات.
أما العرب فلم يؤْثر عنهم قبل الإسلام إلا عنايتهم بالشعر والخطابة، وقد حفظوا لغتهم من التغيير، فعدوا الخطأ فيها من أشد العيوب، وصاحبه يعير به، وأعطوا أصحاب اللسان منهم مكانة رفيعة، وتوارثوا كلامهم وتناقلوه في النوادي والأسواق ومواسم الحج، فكان علمهم هو أدب لغتهم، وهو علمهم العقلي الوحيد، لذلك لم يعنوا بجمع اللغة أو التأليف فيها (1).
ومما عرضته كتب تاريخ الأدب حول الوضعية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الجاهلي قبل الإسلام، نلاحظ أن الشعر العربي هو ديوان العرب وسجلهم المسجل لحياتهم ومختلف أحوالهم ووقائعهم، يقول جلال الدين السيوطي (911هـ): “ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته” (2) فهو المختار في التعبير عن أخبارهم في السِّلم والحرب، لذلك كما يقول شوقي ضيف: “كانت مظاهر الاهتمام به متعددة من طرفهم، من غير أن يخضعوه للكتابة، لثقافتهم الشفهية ” (3)، ولقلة الكتبة، ومن هنا يرى بعض الباحثين أن العرب في الجاهلية لم يكن إدراكهم للغة إدراكا عميقا، أو لم يكن وعيهم باللغة وعيا بليغا، لأن اللغة تحمل أبعادا كثيرة، ثقافية وفكرية واجتماعية، وهذا المعنى تحدث عنه جلال الدين السيوطي في المزهر، مبينا أن المجتمع الجاهلي لم يكن على قدر عال من النظام (4).
من هنا يتبين ضعف الحصيلة اللغوية عند العرب في الجاهلية، لأنها كانت رهينة بيئتهم البسيطة، التي سادت فيها مواضيع إنسانية ذات الصلة بالنظام الاجتماعي الذي كان يسود العرب قبل الإسلام، وهو نظام أقل ما يمكن أن يقال فيه: إنه محكوم ـ في الغالب الأعم ـ بمبدأ القوة والضعف، وهو مبدأ عدواني تذوب فيه مبادئ التعايش والتآزر والتراحم والتعاون، لذلك كانت اللغة مخزونة في قاموس جاهلي ذي صبغة لا إنسانية في الغالب.
< الجزئية الثانية: أثر الوحي في المادة اللغوية
ارتبطت اللغـة العربية بالقرآن المبين، كتابها الأوحـد وحارسها الخالد الأمين، ومما لا سبيلَ إلى الشَّـكّ فيه أنَّ القرآن الكريم كتـابُ العربية الأول في متانة الأُسلوب، وسمو المعنى، وقوة الدَّلالة، ويمثل نَصّهُ الخالد بحراً زاخراً بالظواهر اللغوية، والقضايا النحوية، وقد توافـر علماؤنا على خدمة القـرآن الكريم، وظهرت مؤلفات كثيرة دَرَسَتْ النص القرآني من كافة جوانبه، لإبراز معانيه، وتجلية شكله، وتأصيل قواعد اللغة (5).
فإذا كانت المرجعية الجاهلية قد جعلت من اللغة العربية لغةً وَسَمتها ثقافةٌ لا دينية، وحكمتها عادات ترجع في الغالب إلى قوانين القوة والضعف، التي كانت تحكم فلسفة الاجتماع في العصر الجاهلي، نتج عنها قاموس شعري ونثري بعيد ـ في غالبه ـ عن المقاييس الإنسانية، فإن مجيء الإسلام أعاد صياغة المرجعية العامة للغة و الفكر عند عرب الجزيرة، فأقام حياة المجتمع على أساس العدالة والخير والحق، وسادت بذلك مبادئ الاجتماع الإنساني الأمثل، مقابل القبلية الحيوانية التي حجمت من طراوة اللغة، وأضعفت قاموسها، فتحولت لغتهم من لغة قبلية كلاسيكية لم ترق إلى مستوى النضج الفكري والعقلي، إلى لغة إنسانية متكاملة المضامين منسجمة على كافة المستويات العلمية و المنهجية.
فبنزول القرآن أصبح للغة قيمة مضافة، وأصبح الاهتمام بها اهتماما واسعا، بمخالطة قاموسها بقاموس الوحي، قرآنا وسنة، فكان الجنس الخطابي في صدر الإسلام أوسع الأجناس، لما تقتضيه الدعوة الإسلامية من التبليغ الواسع والمباشر، لتنتقل اللغة العربية من السطحية المطلقة إلى البناء العقلي والصناعة البديعة (6).
وقد هذب القرآن الكريم اللغة الجاهلية، وأعطاها صبغة إسلامية، مضمونا وفصاحة، وأثرى قاموسها بثروة مصطلحية مقدسة، يقول شوقي ضيف: “ولعل أول مرحلة ـ من مراحل الفصحى ـ هي مرحلة الدين الحنيف، الذي تطور بالفصحى من لغة وثنية مادية إلى لغة ذات دين سماوي يحمل ما لا عهد للغة به، من قيم روحية وعقلية واجتماعية وإنسانية ” (7)، وطبيعي أن يُحدث هذا الدين في اللغة تطورا هاما، فظهرت مصطلحات لم تعهد عند العرب قبل الإسلام، مثل الصلاة والزكاة والكفر والإيمان والشرك والصوم… .
< الجزئية الثالثة: ارتباط اللغة العربية بعلوم الشريعة.
وازداد الاهتمام باللغة العربية بشكل واسع حين ارتبطت العلوم الشرعية بها، فأصبحت اللغة مرتبطة بالهوية والعلم، وبالمقدس من الكلام، وأصبحت اللغة لغة التعبد، ولغة التدوين، ولغة القراءة والكتابة، ولغة السياسة ولغة الحضارة ولغة الاجتماع، كما استوعب القرآن الكريم لغة العرب والعجم، يقول ابن فارس: “…ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف ـ أي الأعجمي من اللغة ـ بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال عجمية فهو صادق” (8).
ثم جاء عصر التدوين، فدونت لغة العرب، ودونت المعاجم، ودونت قوانين اللغة نثرا وشعرا، وجاء ذلك في سياق التأصيل لعلوم الشرع، من أجل تفسير القرآن الكريم، وتدوين قواعد الاستنباط من الوحي، ثم توسعت الدائرة فأصبحت الحاجة ماسة إلى تفسير الألفاظ الغريبة بشكل موسع من لسان العرب الخلص، ومن العلماء الذين عرفوا بالضبط، وبذلك كانت نشأة فقه اللغة.
> البغية الثانية: نشأة العلوم المرتبطة باللغة:
< الجزئية الأولى: تصدير
عندما نقول علوم اللغة، فإننا نعني بها العلوم الخادمة للغة من حيث تركيبها وإفرادها وبيانها وإعرابها وأساليبها ونثرها وشعرها، ونحو ذلك، فيدخل في ذلك النحو الصرف والبلاغة والعروض، وغيرها من العلوم التي تعنى بأصيل قواعد اللغة باختلاف زوايا النظر فيها، ولما كانت اللغة العربية هي اللغة الحاملة للدين الإسلامي، كان الحفاظ عليها من الحفاظ على هذا الدين، لأنها لغة التعبد فيه ولغة الاستنباط، و لذلك كانت ضرورة التأصيل لعلوم اللغة ضرورة شرعية، لأن المحافظة على الغاية هي محافظة بالضرورة على وسائلها.
< الجزئية الثانية: نشأة العلوم اللغوية.
إذا أردنا تفصيل الحديث عن حركة تدوين علوم اللغة، فإن الموضوع سيطول بنا، لذلك نوجز القول في هذا المضمار، بما يفي بالغرض المنشود، ويقوم حجة لما نريد.
وقضية نشأة العلوم المرتبطة باللغة، تجرنا إلى الحديث عن نشأة كل علم مرتبط بها؛فعلم النحو العربي احتدم حول نشأته نقاش كبير لتضارب الروايات حول أول من وضعه، ولعل أرجح الروايات والتي مال نحوها معظم المؤرخين، هي الرواية التي يرجحها ابن النديم، وهي أن أبا الأسود هو الذي وضع بعض مصطلحاته الأولى، ويستدل لهذا برواية محمد بن إسحاق. (9) مع نهاية القرن الأول، وذلك لما دعت الحاجة إلى هذاالعلم، للحفاظ على لسان العرب من اللحن، الذي بدأ يظهر نتيجة تدافع الألسنة واختلاط الثقافات الأعجمية بالعربية.
و مما يمكن أن يقال في هذا السياق: إن حركة التأليف في النحو العربي واللغةفي القرن الأول الهجري، هي حركةم بكرة بالنسبة إلى الحركات الأخرى، في المجالات العلمية المختلفة.
وهكذا تتابع التأليف في النحو العربي، مع تلامذة أبي الأسود، وعبر العصور، حتى نضجت حركة التأليف مع سيبويه (180هـ) في منتصف القرن الثاني، ومع كتابه الموسوم ب”الكتاب”، وقد عالج فيه مختلف الظواهر النحوية معالجة مؤصلة، مبنية على لسان العرب السليم، شعرا ونثرا، وعلى القرآن الكريم والسنة النبوية.
وفي هذا السياق وعلى نفس النمط نشأ علم الصرف، فتتابعت الكتابة فيه وامتلأت الخزانة العربية بمؤلفات صرفية تعنى بدراسة المفردة العربية من حيث أوزانُها وصيغُها وتمييزُ صحيحها من علِيلها، إلى أن استوى علم الصرف على سوقه، بوصفه علما خادما للغة على مستوى صناعة المفردة العربية.
ولما وضع علم الصرف للنظر في أبنية الألفاظ، ووضع علم النحو للنظر في إعراب ماتركب منها، تموضع علم البيان للنظر في أمر هذا التركيب، وهو ثلاثة فنون البيان والمعاني والبديع (10)، فكانت التآليف الأولى عبارة عن مقالات تعالج بعض قضاياها، إلى أن جاء شيخ البلاغة، وإمام البراعة، الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ) فوضع كتابين أسس بهما قواعد البلاغة، ودون مسائلها المتعلقة بها، وهما “أساس البلاغة”، و”دلائل الإعجاز”، وكان يسمي مسائل البلاغة بعلم البيان، وقد ذكر أن هذا العلم لقي من الضيم ما لقي، ودخل على الناس في معناه من الغلط ما دخل، فأراد أن يوفيه حقه، ويقرر قواعده تقريرا يليق به، فوضع فيه هذين الكتابين (11).
وفي هذاالصدد جاءت كتابات أخرى تعالج قضايا تتأطر فيما يعرف بفقه اللغة، ليستوي التأليف في فقه اللغة على سوقه، وتتجمع قضايا المادة اللغوية، مع الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب له أسماه، ب”المزهر في علوم اللغة وأنواعها”.
> البغية الثالثة: استنتاجات عامة:
من هنا يظهر أن المرجعية الإسلامية أثمرت في مجال اللغة الركائز الآتية:
1. تنظيف اللغة العربية على مستوى قاموسها من شوائب المنظومة الجاهلية.
2. إثراء بنية اللغة العربية بالمصطلح الشرعي الكفيل بتحقيق إنسانية الإنسان المتكاملة.
3. ارتباط اللغة بالرسالة السماوية، ارتباطَ الوسيلة بالغاية، وهو ما أثر في اللغة شكلا ومضمونا.
4. مسارعة العرب المسلمين إلى تدوين قواعد العربية منذ الصدر الأول، استجابة لحاجة الأمة الإسلامية إلى ذلك.
5. تفريع العرب الدرس اللغوي العربي في التدوين، إلى صرف، ونحو، وبلاغة، وفقه لغة، واشتقاق، وغيرها.
6. تأصيل العرب لعلوم اللغة من اللسان العربي المأثور، شعرا ونثرا،و من القرآن الكريم، والسنة النبوية.
- عناية العرب بأسانيد اللغة، بواسطة مناهج الجرح والتعديل التي ترجع أصولها إلى منهج المحدثين في نقد الرواية.
و من هنا تبرز الفجوة الكبيرة بين اللغة قبل الإسلام واللغة بعده، وذلك راجع بداية ونهاية إلى اختلاف في المنظومة المرجعية على مستوى الفكر والمجتمع والدين، ولما ارتبطت اللغة العربية بالقرآن الكريم ارتباطا اتخذ أبعادا إنسانية ودينية ولسانية، تأثرت بلغته، فأحدث فيها تغيرا جوهريا مس قاموسها وتركيبها وثقافتها، ليجعل منها لغة العلم، ولغة الحضارة، ولغة العبادة.
لكن نلاحظ في يومنا هذا ارتباط اللغة أو تأثرها بمرجعيات أخرى، منها ذات أبعاد علمية تجريبية، ومنها ذات أبعاد عرقية قومية، ففقدت بذلك اللغة العربية بريقها العالمي، وصار ينظر إليها بمنظار التراث الذي يجب تجاوزه، لعدم مواكبته لحركة العمران البشري.
نشير إلى ضرورة مراجعة علاقة اللغة العربية بالمرجعيات الفكرية والحضارية والعلمية التي أحدثتها ثورة صراع الأفكار ذات المرجعيات المتباينة، وذلك من أجل إعادة صياغة مناهجنا في ربط اللغة بالقرآن شكلا ومضمونا، إذا علمنا أن القرآن الكريم هو المرجعية الوحيدة الكفيلة بتخليد هذه اللغة، وإعادة إحيائها، بعد أن كانت لغة العبادة والبيان، ولغة الحضارة والعمران.
——————-
1 – انظر: أليس الصبح بقريب، للعلامة الطاهر بن عاشور،ص 21.
2 – المزهر في علوم اللغة و أنواعها، ج 2 ص 474 .
3 – العصر الجاهلي، شوقي ضيف، ص 142
4 – انظر: المزهر للسيوطي تحت النوع الخمسون الذي عنون عليه، معرفة أغاليط العرب، ج 2 ص 494.
5 – انظر: الخلاف النحوي في إعراب القرآن، د عماد مجيد ص 10.
6 - انظر: العصر الجاهلي، لشوقي ضيف 126.
7 - في التراث والشعر و اللغة، لشوقي ضيف، ص 235.
8 – الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، لأبي الحسين ابن فارس الرازي اللغوي، ص 62.
9 – انظر: الفهرست لابن النديم، ص 61.
10 – علم البيان في اصطلاح المتقدمين من أئمة البلاغة يطلق على فنونها الثلاثة من باب تسمية الكل باسم البعض، وخصها لمتأخرون بالعلم الباحث في أجه المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية. انظر: جواهرالبلاغة للهاشمي، ص 16.
11 – انظر: بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، عبد المتعال الصعيدي، ج 1 ص 6.