إن الحفاظ على ما تبقى من التراث الإسلامي في الأندلس وجمعه وإعادة صياغته –نسخا وتأليفاوترجمة- ليعد من أبرز مظاهر تمسك «المغلوب» بدينه ومقومات هويته، بل هي ضرورة ومسؤولية تحملها بعض «الفقهاء» لأجل توثيق الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية العطرة وكتب التراث العربي الإسلامي؛ حتى لو كانت مرجعيتهم الدينية مهلهلة وآلياتهم الفكرية والمعرفية مذبذبة، وحتى لو جاء هذا الواجب معبرا عنه بلغة أعجمية، لبست لبوسا عربيا باقتباس الحرف العربي وتطويع أساليبه التعبيرية ودلالاته لصالح اللغة العربية.
من هذا الواقع ومن هذه الخصوصية التراثية الفذة يمكن لنا الحديث عن تراث أندلسي أعجمي تشكل فيه السيرة النبوية الشريفة جزءا مؤسسا بعد القرآن الكريم، وفصلا لا غنى لهذا التراث عنه.
ومن هذا المنطلق جاء التفكير، بل التأسيس لمشروع يدرس السيرة النبوية في التراث الأندلسي الأعجمي، باعتبارها أول سيرة كتبت بالأعجمية، أو قل بالرومانثية الإسبانية «المعرّبة» في حروفها وتعابيرها …..
ولا شك أن السيرة النبوية في التراث الأندلسي الأعجمي -وإن كان في الرواية مغالطة أو مبالغة وفي الحديث ضعف أو زيادة- قد كتبت بدافع حب النبي ولغرض إثبات حجية دعوته ودرء الشبهات عنهاوإبقاء سنته حية في قلوب أولئك الأندلسيين وإن أعدت العدة لكي تنمحي وتندثر.
وقد يقول قائل: إن هذه السيرة كتبت بالأعجمية وفيها ما يحول بينها وبين «نص صحيح مطمأن إليه»؛ لذلك وجب الإعراض عنها وتركها على ما هي عليه. حينها، لا غرو أن نترك الحديث كذلك عن «معضلات التراث» وعن إجحاف المستشرقين لتراثنا العربي والإسلامي؛ فلا نشكو من صولاتهم وجولاتهم، ولا نتذمر من آرائهم ولا نعجب كيف أنه لم يثنهم شيء عن سعيهم ذاك.
أما وقد آثرنا أن نكون من أولي العزم ونمضي قدما في سبر أغوار هذا التراث المطوي عنا،فقد كان لزاما علينا أن نتدبر مشروع خدمة السيرة النبوية ونفتح آفاقا جديدة فيه من خلال استقرائنا لبعض من جوانب التراث الأندلسي الأعجمي، ونرسم خريطته ونفصل في بعض من جوانبه، ونحن على علم بأنه ما من جهة أو مؤسسة، عربية أو غربية أقدمت على مثل هذاالمشروع؛ فالموضوع خام والجهود لمـّـا تُبذل وإنجازات المستشرقين والمستعربين في مجال السيرة النبوية في التراث الأندلسي الأعجمي شحيحة جدا مقارنة مع ما تم إنجازه.
خلاصات واستنتاجات البحث :
وقد خلصنا إلى استنتاجات نذكر أهمها:
< إن كتابة آخر مسلمي الأندلسي في السيرة النبوية خدمت سيرة المصطفى لما أحيتها في نفوسهم وأبقت ذكراها في وعيهم ووجدانهم، رغم سياسات التنصير والتحريض ضد شخص النبي ورسالته؛ هذا بغض النظر عن قدراتهم لإخراج نص «صحيح مطمأن إليه».
< إن نقل روايات موضوعة وأحاديث ضعيفة في التراث الأندلسي الأعجمي في كثير من الأحيان لم تكن مسألة مستجدة، بل ظاهرة موروثة نجدها في فترة الحكم الإسلامي وفي كتب السيرة بالعربية.
< تعد هذه أول سيرة كتبت بالأعجمية الإسبانية عاصرت ظهور كتابات إسبانية معادية لشخص النبي ، فكانت مناهضة لهذه الكتابات وناصرة للرسول .
< إن مشروع إحياء هذا التراث يخدم بدوره السيرة النبوية الشريفة، إذ يعمل على تجاوز «معضلات النص» الثانية أو بعض منها، كالتنقيب عن المخطوطات الأندلسية الأعجمية و«العلم بمراكز وجوده» وإيجاد نصوص السيرة المبعثرة في هذا التراث، وجمعها والكشف عن محتواها وترشيد البحث في السيرة النبوية بالأعجمية.
< يعمل هذا المشروع على تجاوز الأطروحات والمنطلقات والمنهجيات التي اعتمدها المستشرقون في دراستهم للتراث الأندلسي الأعجمي، ويفتح آفاقا جديدة وأبوابا غير مطروقة للبحث في السيرة النبوية.
< يعد طرح هذا المشروع في الجامعة المغربية وفي مسار البحث العلمي أول مبادرة، فهو يعمل على تكوين باحثين متخصصين في التراث الأندلسي الأعجمي في قسم اللغة الإسبانية، ويدفعهم في نفس الوقت إلى الانفتاح على التراث الإسلامي والتعاطي للممارسة التراثية. وهذا ما لم يكن ممكنا حتى الآن.
< يفتح هذا المشروع أبوابا في مجال تبادل المعارف وتكاملها، فقد أثبتت تجربة البحث في التراث الأندلسي الأعجمي أن التمكن من قراءة هذا التراث والتمرس على فك شفرته هي، لا شك، مرحلة أولية وضرورية، ولكنها غير كافية في مجال خدمة السيرة النبوية الشريفة، ما دامت هذه الخدمة تحتاج إلى علم وتفقه وتحصيل الدربة في البحث في السيرة النبوية الشريفة.
< مكننا طرح هذا المشروع وتدبر آلياته وأهدافه ومحتواه من إعادة النظر في أطروحة يبدو أن المستشرقين الإسبان قد حسموا فيها، وهي أن «أعجمية الموريسكيين» تندرج ضمن ما اصطلحوا عليه «بالأدب الإسباني الإسلامي»، وهي أطروحة تتعارض مع ما اعتبرناه «تراثا أندلسيا أعجميا»، بعيدا سيكولوجية «الفردوس المفقود». ومن يقرأ على سبيل المثال سيرة النبي بالأعجمية يدرك أن ما كتبه أولئك الأندلسيون ضارب في التاريخ وهو امتداد للعطاء الأندلسي العربي يضاف إليه تفاعل مع البيئة الجديدة وتأقلم مع الظروف الطارئة واللغة السائدة؛وأن فكرة «الإسلام الإسباني» تتعارض مع حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها.
عرف هذا التراث عند المستعربين الإسبان وكذا عند بعض الباحثين العرب «بالألخميادو»، أو «الألخميادية». وهذا تعريب لكلمة إسبانية -aljamiado- أصلها عربي: «الأعجمية». ورد المصطلح في المخطوطات الأندلسية الأعجمية كلفظ مقابل لما هو عربي، وفي إشارة إلى عملية الترجمة التي قام بها أولئك الأندلسيون من العربية إلى الإسبانية أو الكتابة باللغة الإسبانية، رغم خصائصها العربية والإسلامية. فلماذا نعجّم مصطلحات هي في الأصل عربية؟ أما كون هذا التراث أندلسيا باعتباره رافدا من روافد التراث الأندلسي العربي، بل هو امتداد له في كثير من مناحيه، فنستدل عليه بالقول إن إدراك كينونته والوعي بكثير من قضاياه لا يكون إلا بربطه بأصوله العربية الإسلامية الأندلسية؛ فهو في أصله قراءة ونقل وصياغة وترجمة للمصنفات والمراجع التي كانت متداولة في الأندلس. أوليس حقا أن نسميه تراثا أندلسيا رغم أعجميته؟
الدكتورة فدوى الهزيتي (أستاذة بجامعة الحسن الثاني – عين الشق الدار البيضاء)