عرضت الدراسة لناحية مغفلة من عناية الباحثين بالسيرة النبوية في عصرنا الحديث، وهي قضية استكشاف أنماط متن السيرة من حيث طبيعته النصية، لا من حيث فقهه أو مقاربة فهمه، فتناولت وجها من هذه الأنماط، وهو الشكل المرسل في توثيق أحداث السيرة، ويمثل قطاعا رئيسيا لمادتها وأهم مواردها، إلى جانب مسانيد الصحب الأخيار، وكانت فرضية الدراسة أن مراسيل السيرة ليست كلها رواية مأثورة، قد جهل مرجع إسنادها، وإنما لها وجه أدبي في إنشاء المتن المرسل من قبل من أرسله على وجه التأريخ، سواء كان صاحبا أو تابعا، استعان فيه بمصادره المسموعة أو المقيدة، وكفاءته في الفهم والتأويل، ومحفوظه من الرواية، واختارت الدراسة مرسل الإمام الزهري، كأنموذج وسط قد نضجت فيه صنعة العرض التاريخي للسيرة، كما دشنها الصحابة الكرام، ووسع أفقها تلامذتهم من التابعين، من أشياخ الزهري، واكتملت عند وريثه ابن إسحاق.
ولذلك اقتضى بسط فرضية البحث تحقيق أمور ثلاثة، عليها قامت أركانه :
تحقيق دلالة الإرسال في عصر الرواية، في استعمال كبار النقاد من حيث تداول مفهومه، في صيغ لغوية تتبعنا إحصاءها في استقصاء ابن أبي حاتم، ومن حيث تداول لفظه الاصطلاحي في ملفوظ الإرسال ومشتقاته، وتجليات دلالته النقدية، وحصرنا وجوه إطلاقه في تسع مواقع دلالية جامعة، ثم انتقلنا، في ضوء ذلك، إلى أنماط المراسيل في كتب السيرة، من خلال مغازي ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير، ومحمد بن سلمة الحراني، ومغازي عبدالرزاق في مصنفه، وحصرنا هذا التنميط في ضربين أساسيين هما؛ المرسل النقلي، وهو رواية مأثورة، رسمنا له حدا يماشي أشكال وروده في مدونة السيرة، ولا يند عن دائرة الاصطلاح، ثم المرسل التأريخي، يأخذ فيه المرسِل منزلة المؤرخ، يحتمل تبعة أقواله بصفة شخصية، وقد وضعنا له حدا يناسبه، وأفردنا مبحثا خاصا لتقرير وجوه الفرق بين الرواية والتاريخ في المتن المرسل.
تحقيق الوجه التأريخي في مراسيل الزهري في السيرة، وهو تطبيق لما سبق بيانه في الركن الأول، وسعينا في بحثه إلى استجماع العناصر التي أسهمت في تكوين أبعاد الوعي التاريخي عند الإمام الزهري، والأصول التي عملت على استنبات مهارة التأريخ عنده، وانحصرت عنده فيما أسميناه بالمسند التأريخي، ويمثل عطاء الصحابي في التأريخ للنبوة، وقد رسمنا له حدا مناسبا في علم السيرة، وكان للزهري فيه باع من الرواية طويل، ثم الإرسال التاريخي لشيوخه، واكتفينا بالتمثيل بعلمين من رواد السيرة النبوية هما؛ سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وضربنا لذلك شواهد جاءتنا من طرق صحاح عن الزهري عنهما، فكان لهذين الموردين أثرهما الكبير في تبلور مهارة التأريخ عند ابن شهاب أغنى بها أمانته وحفظه، وقد أفردنا لأعماله المؤرخة في السيرة مبحثين لتصنيفها، من حيث الموضوع وسياق التخريج، ثم تحليل مضمونها لبيان الوعي التاريخي في محتواها، وقيمتها العلمية في توثيق وقائع السيرة وتركيب صورتها التاريخية.
المطالبة بتحقيق الملاءمة المنهجية للإرسال التاريخي، وذلك بأن نتواضع على مسلك نقدي داخلي يتمم جهود أهل الحديث في تصحيح نص السيرة، ويميز هذا النمط من المرسل بما يليق به في منهج النقد.
الدكتور أحمد الحيمر (أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي بمراكش)