ذ. محمد حماني
إن سر إصلاح المجتمعات الإسلامية رهين بما رُزقت به هذه المجتمعات من مصلحين وخبراء ربانيين ينيرون لها الطريق في الليالي الحالكة، الدامسة، فيقفون صفا صفا موقف الملّاح الماهر في الأمواج العاتية، المتلاطمة، فيوفقون في إرساء سفنها، وجواريها في المياه الآمنة، فتنعم حينئذ هذه المجتمعات بالأمن، والسلم، والسلام، والاستقرار. والمصلح الخبير لابدّ أن يكون «عارفا لأمّته، مطّلعا على خفاياها، واقفا على أسرار نفسيّتها، خبيرا بطرق توجيهها، يعرف كيف يخاطبها بلغتها، وكيف يتملّك زمامها، وكيف يكون موضع تقديرها، وإجلالها» (1).
الأستاذ الهراس ورجالات الإصلاح :
أما وقد حمل لواء الإصلاح في العالم الإسلامي الحديث، والمعاصر مصلحون كُثْرٌ أفذاذ أمثال: محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، خير الدين التونسي، عبد الرحمن الكواكبي، بديع الزمان النورسي، محمد البشير الإبراهيمي، محمد فريد، مالك بن نبي..، وغيرهم من الرجالات الذين تشبّعوا بروح القيادة الإسلامية الرشيدة، وبحسبي أن أقول: إن الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس واحد من المصلحين الذين درسوا سرّ تأخّر الإصلاح، وعوامل بطئه، وعدم فعاليتها بحس نقدي لعالم مرهف، ففلسف بذلك فكرة الإصلاح؛ لأنها كانت تحتاج إلى أسس فكرية، فامتازت أفكاره بالموضوعية، والتعمق، والشمول، والخصوبة، والحيوية. وعليه فإن مدار فكرة الإصلاح -عنده– هو العقيدة السليمة، فالمشكلة إذن ليست في إعادة العقيدة؛ ولكن في إعادة الإشعاع والفعالية لهذه العقيدة، وهذه «الخميرة الروحية».
كما يذهب الأستاذ عبد السلام الهرّاس إلى أنّ الإصلاح يجب أن يصبو إلى توحيد المشاعر و العواطف، والأفكار، وتمتين الروابط على أساس حضاري يكون للأمّة الإطار العام الذي يغذّيها بكل نزعة خيّرة، وميل كريم حتى تصل إلى المستوى الذي تريد، وتحقّق الآمال التي من أجلها تسعى.
وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ عبد السلام الهراس ينتهج منهج أستاذه مالك بن نبي (رحمه الله) في كون المركّب الرابط لعناصر المدنية: الإنسان، التراب، الوقت، هو الدين، وسرعان ما تلفظ المدنية أنفاسها بتفسّخ عناصرها الأساسية، و تنعدم الرابطة الخلّاقة بين هذه العناصر لخمود الروح، وتصير تلك العناصر معطيات، جامدة، مجرّدة من كل قيمة، وتستطيع الأمة أن تحتفظ بطراوة المدنية و عنفوانها لو أنّها استطاعت الإلمام بشروط الانحطاط وعوامل الانحلال؛ كي تتجنّبها، وتصير في حياتها على وعي وبصيرة، إذ المدنية تمتاز بتطوّرها الداخلي الذاتي الذي يبدأ بالروح، فالعقل، فالغريزة. والمدنية ليست بضاعة تشترى، وإنما هي معان نفسية روحية، من الذات، من الروح، من الفطرة، حيث إن الإصلاح يبدأ من الفرد، ومن النفس حيث المشكلة، ويلتمس الأستاذ عبد السلام الهراس ذلك المبدأ من قوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ولقد لخّص الأستاذ عبد السلام الهراس أنواع القيادات أو مريدي الإصلاح في العالم الإسلامي في نوعين:
أ ـ نوعٍ مضلل عن سوء نية، أو عن غفلة.
ب ـ ونوعٍ يعتمد على الأسس التي اعتمدها المسلمون أوّل الأمر في بناء شخصيّتهم.
ومن ثمة فإن فكرة الإصلاح – في نظره – يجب أن تحارب في واجهتين، واجهة الاستعمار الصريح، وواجهة الاستعمار الخفي الذي تقمّص «شخصيات إسلامية»، و أفكار تجديدية صادرة عن المسلمين، ويكمن خلفها مؤسسات، ومنظمات، وكتب، ونشرات يوجهها حيث يريد.(2)
مــن معوقات الاصلاح عند الأستـاذ الهراس :
ويمكن أن نستقطر الأسباب التي يراها الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس معرقلة للإصلاح في ما يلي:
< العقد النفسية التي تتحكم في أصحابه، تلك العقد التي لا تضع مجالا للبحث في المشكلات الإسلامية بحثا موضوعيا.
< العبث الجدي الذي يبدو في دراسات فنية هزيلة في المشكلات الإسلامية،وسبب هزالتها -في اعتقاده- يتصدّى لمعالجتها أناس غير اختصاصيين، فيخرجون ذات موضوعات قيّمة؛ ولكنها لا تعطي المبرّر الفني لنظرة الإسلام.
< اعتماد حركة الإصلاح على الكم عوض الكيف، حيث لا تقوم الحركة بكثرتها؛ وإنما تكمن قيمتها في مدى فعاليتها، ومساهمتها في الإنتاج الاجتماعي، وحظها من الإتقان، والسداد، والمنطق العلمي. كما أشار الأستاذ الدكتور عبد السلام الهرّاس إلى أن العالم اليوم قد فشل في حل مشاكله بالقوة، والمادة، وليس إلا ميدان الفكرة صراعا و حربا، وعلى المصلحين أن يعملوا على إشاعة رسالة الإسلام في المجتمع، وبثها في أبنائه عن طريق تربية عامة، وشاملة لتُكَون الرجل المؤمن الذي ينطلق بهذا العالم ليؤدي فيه الرسالة التي قام بها السلف الصالح الذين أنقذوا العالم، وأمدّوه بقيم إنسانية خالدة (3).
ثم إن فصل الضمير عن الثقافة، وكذا فلسفة القوة ينتجان معا «الخيبة» تلك الخيبة التي تخلف حسرة في النفوس، وكارثة تهدد بقاء الإنسان. ومهمة الأستاذ عبد السلام الهراس هي المهمة التي سار عليها الأستاذ المفكر مالك بن نبي (رحمه الله)، تلكم هي: «التخطيط العلمي الدقيق للارتفاع بالإنسان إلى مستوى الحضارة، وبالتحضر إلى مستوى الإنسان»، ذلك أن إيجاد الإنسان المتحضر هي النقطة التي يوجد فيها الخلاص للإنسانية، يقول الأستاذ عبد السلام الهراس: «وما سمعنا قط الاهتمام ببناء الإنسان على أساس بناء العقيدة ومتانتها وفعاليتها، وعلى أساس الأخلاق الكريمة والخلال الحميدة البناءة، وعلى أساس التكوين العلمي والمهني والتكنولوجي المرتبط بالحاجات الضرورية للتنمية، وربط المدرسة والجامعة بالجهاز الصناعي والإداري والاجتماعي وتعزيز ذلك بإعلام راشد وإدارة واعية فعالة ومجتمع مدني يقظ ونشيط، ونهضة اجتماعية شاملة تتغذى من محيطها، وكل ذلك يجب أن يكون محاطا بسياج قوي وصلب وواع ومسئول للحماية والصيانة والتأمين.. «(4).
من آسس النهضة الاصلاحية عند الدكتور الهراس :
كما أنه لا مناص من القول: إن الأستاذ عبد السلام الهراس قد فلسف الحركة التي يقوم بها الإنسان، حيث حصرها في ثلاث حركات: «الحركة الحية»، و«الحركة الميتة»، و«الحركة المشلولة». فيهمنا – هنا – «الحركة الحية» التي لها الأثر الفعال في رقي المجتمع؛ لأنها تنبثق من «فكرة» وتسير بحرارة روحية في جو يشع بالوعي والتصميم، وشأن هذه الحركة أن تكون مبررة تشبه إلى حد كبير الحركة المسرحية، حيث تدفع بالعمل المسرحي نحو الأمام.. نحو تعقيد الحوادث وتأزمها ثم حلها، فهي حركة واعية تدري وظيفتها دراية تامة، وتدرك غايتها حق الإدراك، كما أن لها اتصالا عضويا بما سبقها وبما يتبعها وبما جاورها من الحركات الأخرى»(5).
ولعل المقام مناسب لأقرر في اطمئنان، فأقول: إن من أسس النهضة الإصلاحية لدى الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس ما يأتي:
أولا- القدرة على الاختيار: يقول الأستاذ عبد السلام الهراس: «يجب على الأمة أن تكون لها القدرة على الاختيار لتختار الطريق الذي يجب أن تسيره، وهذا الاختيار يفرض عليها التخطيط الثقافي، والبعث الحضاري، وإثارة الأجواء النفسية والروحية لبث مضمون ذلك التخطيط وفلسفته في النفوس والأرواح. كما يجب على هذا التخطيط أن يكون منبثقا من ضمير الأمة وتاريخها، ومستلهما أساسا عوامل تفجير طاقاتها الروحية على ضوء تجاربها خلال حياتها «(6).
ثانيا – النقد الذاتي: يذهب الأستاذ عبد السلام الهراس إلى أن النقد الذاتي شيء ضروري لاستمرار حركة الإصلاح، وضمان سلامتها، وفعاليتها، حيث يقول: «إن الأمة التي تريد أن تبني كيانها يجب أن تقيم من نفسها رقيبا على سلوكها وتصرفاتها وناقدا لأساليبها في الحياة ووسائلها، والنتائج التي انتهت إليها، إذ بدون نقد ذاتي لا تستطيع أن تبتر عوامل التعويق لنهضتها، وتعويضها بعوامل دافعة وفعالة لحركتها وتسديدها نحو الأهداف بكل دقة وإتقان وسرعة.»(7)
ثالثا- الرفع من المستوى الروحي: إن الرفع من المستوى الروحي شيء أساس في نهضة المجتمع والرقي به إلى مدارج العلا؛ لأن المجتمع أصبح يعيش من أجل المادة، واللهث وراءها، فأدى به إلى خواء روحي جر عليه كثيرا من الويلات. ولا جرم إذا وجدنا الأستاذ عبد السلام الهراس يدعو إلى بناء هذا المجتمع على أساس العقيدة السليمة، والاهتمام بالجانب الروحي في الإنسان، وهذا ما يذهب إليه الأستاذ المهدي بن عبود (رحمه الله): «على البشرية أن تترك الثلثين من حياتها للروح وتترك الثلث الأخير للمادة إن هي أرادت الاستقامة في الحياة مع العيش الرغيد..»
جماع القول: إن الأستاذ عبد السلام الهراس شعلة من مدرسة مالك بن نبي الفكرية الإصلاحية التي أساسها الصلب هو العقيدة السليمة وشعارها إصلاح المجتمع على أسس علمية متينة رصينة تساهم في بناء المواطن الصالح.
——–
(1)- زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين، دار الكتاب العربي – بيروت، ص:348.
(2)- دعوة الحق، ع:3، س:4، (1960)، مقال بعنوان: « حول فكرة الإصلاح الإسلامي «، د.عبد السلام الهراس، ص:21.
(3)- دعوة الحق، ع:7، س:3، (1660)، مقال بعنوان: « نحو تربية إسلامية «، د.عبد السلام الهراس، ص:8.
(4)- المحجة، ع:25، س:(2006)، بارقة بعنوان: « التخريب الداخلي «، د.عبد السلام الهراس، ص:الأخيرة.
(5) – دعوة الحق، ع:4، س:2، (1959)، مقال بعنوان: « فلسفة الحركة «، د.عبد السلام الهراس، ص:42.
(6)- دعوة الحق، ع:5، س:8، (1969)، مقال بعنوان: « نحو انطلاقة مستقيمة «، د.عبد السلام الهراس، ص:9.
(7)- دعوة الحق، ع:1، س:5، (1961)، مقال بعنوان: « نحو ثقافة إسلامية «، د.عبد السلام الهراس، ص:25.